ليصرفوا عن دين الله تعالى نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا منهم : أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وكلهم من قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم أيام بدر عشر جزائر ، أو في أبي سفيان استأجر يوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش أي : اتخذه جيشا ، وأنفق عليهم أربعين أوقية ، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا ، أو في أصحاب العير ، فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم : أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرنا ففعلوا (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ) أي : عاقبة الأمر (عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي : ندامة لفواتها وفوات ما قصدوه (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) أي : آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك كما اتفق لهم في بدر ، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوّة ، ولم يغن عنهم شيء من ذلك بل كان وبالا عليهم فإنه كان سببا لجراءتهم حتى قدموا فما كان في الحقيقة إلا قوّة للمؤمنين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ثبتوا على الكفر (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي : يساقون إليها يوم القيامة فهم في خزي في الدنيا والأخرة.
فإن قيل : لم لم يقل تعالى : وإلى جهنم يحشرون؟ أجيب : بأنه أسلم منهم جماعة كأبي سفيان ابن حرب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام ، بل ذكر أن الذين ثبتوا على الكفر يكونون كذلك.
(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ) أي : الفريق الكافر (مِنَ الطَّيِّبِ) أي : من الفريق المؤمن (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) أي : يجمعه متراكما بعضه على بعض كقوله تعالى : (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن ، ١٩] أي : لفرط ازدحامهم ، وقيل : ليميز المال الخبيث الذي أنفقه الكافر على عداوة محمد صلىاللهعليهوسلم من المال الطيب الذي أنفقه المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فيركمه جميعا (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) في جملة ما يعذبون به كقوله تعالى : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) [التوبة ، ٣٥] الآية ، واللام على هذا متعلقة بتكون من قوله تعالى : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) وعلى الأوّل متعلقة بيحشرون أو يغلبون.
وقرأ (لِيَمِيزَ) حمزة والكسائيّ بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية مع الكسر والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين كفروا (هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : الكاملون في الخسران ؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
ولما بيّن تعالى ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى طريق الصواب. فقال : (قُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) كأبي سفيان وأصحابه (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أي : قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عن الكفر وقتال النبيّ صلىاللهعليهوسلم يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل : إن تنتهوا يغفر لكم (وَإِنْ يَعُودُوا) أي : إلى الكفر ومعاداة النبيّ صلىاللهعليهوسلم (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي : بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، واختلفوا هل الكافر الأصلي مخاطب بفروع الشريعة؟ وهل يسقط عن المرتدّ ما مضى في حال ردّته كالكافر الأصلي كما هو ظاهر الآية؟ وهل الردّة تحبط ما مضى من العبادات قبلها ، ذهب أصحاب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه مخاطب بدليل قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر ، الآيات : ٤٢ ـ ٤٣] الآية ، وأنّ المرتدّ لا تسقط عنه العبادات الفائتة في الردّة تغليظا عليه ، وأنّ الردّة لا تحبط ما مضى ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في المائدة ، وعن يحيى بن معاذ أنه قال : توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.