(وَإِذْ) عطف على واسألهم أي : واذكر لهم حين (تَأَذَّنَ) أي : أعلم (رَبُّكَ) وأجري مجرى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بجوابه وهو (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي : اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي : بالإهانة والذل وأخذ الجزية منهم فبعث الله تعالى عليهم سليمان وبعده بختنصر فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية ، وكانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله تعالى نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم فضربها عليهم ولا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر حتى ينزل عيسى ابن مريم فإنه لا يقبل الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.
فإن قيل : إنه يحكم بشريعة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم وشريعته أخذ الجزية أو الإسلام أجيب : بأنّ شريعته بذلك مغياة بنزول عيسى عليهالسلام وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) أي : لمن أقام على الكفر كهيئة الدليل على أنه يجمع لهم مع ذل الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمرا عليهم في الدنيا والآخرة ، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) أي : لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام (رَحِيمٌ) بهم.
(وَقَطَّعْناهُمْ) أي : فرقناهم (فِي الْأَرْضِ أُمَماً) أي : فرقا بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة قط و (أُمَماً) مفعول ثان أو حال وقوله تعالى : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ونظراؤهم (وَمِنْهُمْ) أي : أناس (دُونَ ذلِكَ) أي : منحطون عن الصلاح فهم كفرتهم وفسقتهم (وَبَلَوْناهُمْ) أي : اختبرناهم جميعا الصالح وغيره (بِالْحَسَناتِ) أي : بالخصب والعافية (وَالسَّيِّئاتِ) أي : بالجور والشدّة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : كي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني : وكل واحد من الحسنات والسيآت يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب.
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : هؤلاء الذين وصفناهم (خَلْفٌ) والخلف : القرن الذي يجيء من بعد وهو بسكون اللام شائع في الشر وبفتحها في الخير يقال : خلف صدق بفتح اللام وخلف سوء بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت (١) :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا |
|
لأوّلنا في طاعة الله تابع |
وقال لبيد في الذم (٢) :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم |
|
وبقيت في خلف كجلد الأجرب |
فحرك اللام والخلف مصدر نعت به ، ولذلك يقع على الواحد والجمع والمراد به الذين كانوا في عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم. (وَرِثُوا الْكِتابَ) أي : التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي : هذا الشيء الفاني الأدنى أي : الدنيا وما يتمتع به فيها وفي قوله : (هذَا الْأَدْنى) تخسيس وتحقير ، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب ، وإما من دون الحال وسقوطها وقلتها والعرض بالفتح جميع متاع الدنيا كما يقال : الدنيا
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٤١ ، ولسان العرب (خلف) ، والمخصص ١٦ / ١٨٩ ، وتاج العروس (خلف) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص ١٩٧ ، والمستقصى ٢ / ٣٠١.
(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان لبيد ص ١٥٣ ، ١٥٧ ، ولسان العرب (شلخ) ، (خلف) ، وكتاب العين ٤ / ٢٦٦ ، والمخصص ١٢ / ١٥٧ ، وتاج العروس (شلخ) ، (خلف) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٨٤ ، وجمهرة اللغة ص ٦١٥ ، والبيان والتبيين ١ / ٢٦٧ ، ٢ / ١٧٠ ، والأغاني ١٧ / ٧١ ، ٢٥ / ٥٤.