يتصدّوا لمعارضته والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج لأنّ قوله من التحدي راجع للآية الأولى والباقي راجع إلى الثانية ، والثاني : تضمنهما أي : مجموعهما الإخبار عن الغيب على ما هو به فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر لأنّ ذلك راجع للآية الثانية ، والثالث : أنه عليه الصلاة والسّلام لو شك في أمره ـ أي : نفسه ـ لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتذهب حجته ، وهذا راجع إلى الآية الأولى. ثم عطف سبحانه وتعالى حال من آمن بالقرآن ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفية عقابه على عادة ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب تنشيطا لاكتساب ما ينجي وتثبيطا عن اقتراف ما يردي بقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : الطاعات (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) أي : حدائق ذات شجر ومساكن ، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلىاللهعليهوسلم ، أو عالم كل عصر ، أو كل أحد يقدر على البشارة أن يبشر الذين آمنوا ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنؤوا بما أعد لهم ، والبشارة : الخبر الصدق السار أوّلا فإنه يظهر أثر السرور في البشرة لأن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجرة ولذلك قال الفقهاء : البشارة هو الخبر الأوّل حتى لو قال الرجل لعبيده : من يبشرني بقدوم ولدي فهو حرّ فأخبروه فرادى عتق أوّلهم ولو قال : من أخبرني عتقوا جميعا.
فإن قيل : ما الجواب عن قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ؟) أجيب : بأنّ ذلك ورد على سبيل التهكم كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ، ٤٩] وعطف سبحانه وتعالى العمل على الإيمان مرتبا للحكم عليهما إشعارا بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين ، فإنّ الإيمان الذي هو عبارة عن التيقن والتصديق أس ، والعمل الصالح كالبناء عليه ، ولا نفع تام بأس لا بناء عليه ، ولذلك قلما ذكرا مفردين وفي عطف العمل على الإيمان دليل على أنّ الصالحات خارجة عن مسمى الإيمان إذ الأصل أنّ الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه ، وجمع سبحانه وتعالى الجنة لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عباس سبع : جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السّلام ، وعليّون ، وفي كل واحدة من هذه السبع مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال. واللام في الصالحات للجنس لا للاستغراق إذ لا يكاد المؤمن أن يعمل جميع الصالحات ، واللام في لهم تدل على استحقاقهم إياها لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح لا لذاته فإنه لا يكافىء النعم السابقة فضلا عن أن يقتضي ثوابا وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ولا على الإطلاق بل بشرط أن يستمرّ عليه حتى يموت وهو يؤمن لقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [البقرة ، ٢١٧] ولعله سبحانه وتعالى لم يقيدها هنا استغناء بهذه الآية وأشباهها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت أشجارها ومساكنها (الْأَنْهارُ) كما تراها جارية تحت الأشجار الثابتة على شواطئها ، وعن مسروق : أنهار الجنة تجري في غير أخدود ، قال الجوهري : الأخدود شق مستطيل في الأرض واللام في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري ، قال البيضاوي : أو للعهد والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى : (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد ، ١٥] الآية. اه.
قال التفتازاني : إنما يصح هذا لو ثبت سبق قوله تعالى : (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) في الذكر.