يا عمر؟» قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فإذا كمل فلم يكمل شيء إلا نقص قال : «صدقت» (١) ، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلىاللهعليهوسلم عاش بعدها أحدا وثمانين يوما ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل وكانت هجرته في الثاني عشر منه ، فقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي : الفرائض والسنن والحدود والجهاد والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وهذا معنى قول ابن عباس ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك ، وقيل : أظهرت دينكم وأمّنتكم من عدوّكم.
فإن قيل : قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يقتضي أنّ الدّين كان ناقصا قبل ذلك وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلىاللهعليهوسلم أكثر عمره كان ناقصا ، وإنما وجد الدّين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة. أجيب : بأنّ الدين لم يكن ناقصا بل كان أبدا كاملا وكانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالما في أوّل وقت المبعث بأنّ ما هو كامل في هذا اليوم ، ليس بكامل في الغد ولا مصلحة فيه ، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت ، وكان ينزل بعد العدم ، وأمّا في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبدا كان كاملا إلا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص ، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلهذا قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بإكماله ، وقيل : بدخول مكة آمنين ورضيت أي : اخترت لكم الإسلام دينا من بين الأديان ، وهو الذي عند الله لا غير قال الله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران ، ٨٥].
وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو إن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضي ، والمعنى : فمن اضطرّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات (فِي مَخْمَصَةٍ) أي : مجاعة (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) أي : مائل (لِإِثْمٍ) أي : معصية بأن يأكل ذلك تلذّذا ومجاوزا حدّ الرخصة كقوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [البقرة ، ١٧٣] (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) له ما أكل (رَحِيمٌ) به في إباحته فلا يؤاخذه ومن المائل إلى الإثم قاطع الطريق ونحوه فلا يحل له الأكل مما ذكر قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون فمن اضطرّ في الوصل والباقون بالضم.
(يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من الطعام وإنما أتى بقوله لهم بلفظ الغيبة لتقديم ضمير الغيبة في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ) ولو قيل في الكلام : ماذا أحلّ لنا لكان جائزا على حكاية الجملة كقولك : أقسم زيد ليضربن ولأضربن بلفظ الغيبة والتكلم ، إلا أنّ ضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوه كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها وما ذا مبتدأ وأحلّ لهم خبره كقولك : أي شيء أحلّ لكم منها؟ فقال تعالى : (قُلْ) لهم (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي : ما ليس بخبيث منها وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ولا مستقذر من ذي الطباع السليمة ، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرّمونه على أنفسهم من السائبة وما معها وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم.
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ١٤٠ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣٢٦.