المؤمنين ويحتالون في صدّهم عن دين الله ويمنعون من أراد الدخول فيه جهدهم وقيل : أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان والحروب ليعودوا لمثله ، وإنما كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التوبيخ ونفي العذر لهم وإشعارا بأنّ كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب وقوله تعالى : (تَبْغُونَها) أي : السبيل (عِوَجاً) حال من الواو أي : باغين طالبين لها اعوجاجا أي : ميلا عن القصد والاستقامة بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أنّ في دين الإسلام عوجا عن الحق بمنع النسخ وبتغيير صفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونحوهما.
فائدة : قال أبو عبيدة : العوج بالكسر في الدين والقول والعمل وبالفتح في الجدار وكل شخص قائم (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أي : عالمون بأنّ الدين المرضي هو دين الإسلام كما في كتابكم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الكفر والتكذيب وإنما يؤخركم لوقتكم فيجازيكم.
فإن قيل : لم ختمت الآية الأولى بقوله تعالى : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) وهذه الآية بقوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ؟) أجيب : بأنه لما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله تعالى : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) ولما كان في هذه الآية صدهم المؤمنين عن الإسلام كانوا يخفونه ويحتالون فيه قال : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.)
ولما مر شاس بن قيس اليهوديّ ـ وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم ـ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مسجد لهم يتحدّثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال : ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار ، فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث ـ وهو موضع بالمدينة وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ـ ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح فبلغ ذلك النبيّ صلىاللهعليهوسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال : «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف به بينكم؟» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم سامعين مطيعين» (١) نزل.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي : شاسا وأصحابه (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) قال جابر : ما رأيت يوما قط أقبح أوّلا وأحسن آخرا مثل ذلك اليوم ، ثم قال الله تعالى على وجه التعجب والتوبيخ.
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) أي : ولم تكفرون (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) محمد صلىاللهعليهوسلم والمعنى من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال إنّ آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان النبيّ صلىاللهعليهوسلم غضة طرية وبين أظهركم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) أي : ومن يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في مجامع أموره (فَقَدْ هُدِيَ) أي : فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول : إذا جئت فلانا فقد أفلحت كان الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا ومعنى التوقع في قد ظاهر لأنّ المعتصم بالله متوقع للهدى كما أنّ قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده
__________________
(١) انظر السيرة النبوية لابن هشام ٣ / ٩٥ ، والطبري في تفسيره ٥٩٤٥.