(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا : اهدنا والهداية الدلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير.
فإن قيل : قال الله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات ، ٢٣] أجيب : بأنه وارد على التهكم.
تنبيه : هدى أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء ، ٩] (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأعراف ، ١٧٥] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) [الأعراف ، ١٥٥] وقد يتعدى بنفسه كما هنا وهو حينئذ محتمل لإضمار الحرف ولعدم إضماره وهداية الله تعالى تتنوّع أنواعا لا يحصيها عدد كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم ، ٣٤] [النحل ، ١٨] ولكنها تنحصر في أجناس مرتبة ، الأوّل : إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة والثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه أشار تعالى حيث قال : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ، ١٠] أي : طريق الخير والشر وقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت ، ١٧] والثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء ، ٧٣] وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء ، ٩] والرابع : أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى تعالى بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام ، ٩٠] وقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت ، ٦٩].
فإن قيل : ما معنى طلب الهداية وهم مهتدون؟ أجيب : بأنهم طلبوا زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد ، ١٧] والصراط من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق وقد تشمّ الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه ، قرأ حمزة الصراط المعرف في هذه السورة بالإشمام وهو أن ينطق القارىء بحرف متولد بين الصاد والزاي ، وأشمّ خلف صراط الثاني كالأوّل وكذا جميع ما في القرآن من معرف ومنكر ، وقرأ قنبل جميع ما في القرآن بالسين ، وقرأ الباقون بالصاد الخالصة في الجميع ، وهذه لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وهو مصحف سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه والمستقيم المستوي ، والمراد به طريق الحق ، وقيل : ملة الإسلام ، وهذان القولان مرويان عن ابن عباس وهما متحدان صدقا وإن اختلفا مفهوما.
(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالهداية بدل من الأوّل بدل كل من كل والعامل فيه مقدّر على رأي الجمهور ، وقيل : العامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو ظاهر مذهب سيبويه ، واختاره ابن لك (١).
فإن قيل : ما فائدة ذكر صراط الذين أنعمت عليهم بدلا تابعا؟ وهلا اقتصر عليه مع أنه المقصود بالنسبة؟ أجيب : بأنّ فائدته التوكيد والتنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه
__________________
(١) ابن لك : كذا بالأصل ، ولم أجد له ترجمة في المصادر والمراجع التي بين يدي ، ولعلها تصحيف : ابن مالك. والله أعلم.