وثانيا : مراعاة النظم والدقة في إلغاء الخصوصيات المكتنفة بالكلام ؛ ليخلص صفوه ويجلو لبابه في مفهومه العام ، الأمر الذي يكفله قانون «السبر والتقسيم» من قوانين علم الميزان (علم المنطق) والمعبّر عنه في علم الأصول : بتنقيح المناط ، الذي يستعمله الفقهاء للوقوف على الملاك القطعي لحكم شرعي ؛ ليدور التكليف أو الوضع معه نفيا وإثباتا ، ولتكون العبرة بعموم الفحوى المستفاد ، لا بخصوص العنوان الوارد في لسان الدليل. وهذا أمر معروف في الفقه ، وله شرائط معروفة.
ومثال تطبيقه على معنى قرآني ، قوله تعالى ـ حكاية عن موسى عليهالسلام ـ : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)(١).
هذه قوله نبيّ الله موسى عليهالسلام قالها تعهّدا منه لله تعالى ، تجاه ما أنعم عليه من البسطة في العلم والجسم : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢) قضى على عدوّ له بوكزة وكزه بها ، فحسب أنه قد فرط منه ما لا ينبغي له ، فاستغفر ربّه فغفر له. فقال ذلك تعهدا منه لله ، أن لا يستخدم قواه وقدره الذاتيّة ، والتي منحه الله بها ، في سبيل الفساد في الأرض ، ولا يجعل ما آتاه الله من إمكانات معنوية وماديّة في خدمة أهل الإجرام.
هذا ما يخصّ الآية في ظاهر تعبيرها بالذات.
وهل هذا أمر يخصّ موسى عليهالسلام لكونه نبيّا ومن الصالحين ، أم هو حكم عقلي بات يشمل عامة أصحاب القدرات ، من علماء وأدباء وحكماء وأرباب صنائع وفنون ، وكل من آتاه الله العلم والحكمة وفصل الخطاب؟ لا ينبغي في
__________________
(١) القصص / ١٧.
(٢) القصص / ١٤.