بل
أصلها في العربية : الإضراب عن الاول ، وإثبات الثاني ، تقول : لقيت زيدا بل عمرا فتركت الأول ، وأخذت تذكر شيئا آخر ، غلطت في الأول ، أو بدا لك فيه ، فتداركت كلامك ب" بل" فجعلت الأمر للثاني ، وأخرجت الأول مما دخل فيه الثاني.
ثم جاء في القرآن لغير الغلط والاستدراك والبداء ، ولكن لترك قصة إلى أخرى ، كأنه قال : دع هذا مع تمام فائدته إلى فائدة أخرى ، ومثل هذا يكون منا أيضا ، يقول أحدنا : جاءني الحاجب بل الأمير ، أي : دع مجيء الحاجب مع أفدتك به ، فالأمير هذا أمره.
وينقسم في القرآن على وجهين :
أحدهما : قوله تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) [سورة الأنبياء آية : ٥] ، كأنه قال : دع ما تقدم ذكره من أمرهم ، وخذ في أنهم قالوا : إن القرآن أضغاث أحلام ، وأضغاث الأحلام : مختلطاتها التي لا تأويل لها ، ثم حكى عنهم فقال تعالى : (بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) [سورة الأنبياء آية : ٥] ، والمراد أنه اختلط عليهم أمرهم ، فكذبوا أنفسهم ، وخرجوا من شيء إلى شيء ، وهذا على سبيل الإضراب عن الأول وإثبات الثاني.
ومثل الوجه الأول قوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)(١) [سورة النمل آية : ٦٦] ، ف : (ادَّارَكَ) لفظ ماض ومعناه الاستقبال ، أي : بل يتكامل علمهم في الآخرة إذا حصلوا فيها ، ويوقنون أن ما وعدوا منها في الدنيا حق.
__________________
(١) قال الطبري : قوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر وعامة قرّاء أهل الكوفة : (بَلِ ادَّارَكَ) بكسر اللام من" بل" وتشديد الدال من" ادراك" ، بمعنى : بل تدارك علمهم أي تتابع علمهم بالآخرة هل هي كائنة أم لا ثم أدغمت التاء في الدال كما قيل : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ).
وقرأته عامة قرّاء أهل مكة : " بل أدرك علمهم في الآخرة" بسكون الدال وفتح الألف ، بمعنى هل أدرك علمهم علم الآخرة. وكان أبو عمرو بن العلاء ينكر فيما ذكر عنه قراءة من قرأ : " بل أدرك" ويقول : إن" بل" إيجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار. ومعنى الكلام : إذا قرئ كذلك" بل أدرك" لم يكن ذلك لم يدرك علمهم في الآخرة ، وبالاستفهام قرأ ذلك ابن محيصن على الوجه الذي ذكرت أن أبا عمرو أنكره.
وينحو الذي ذكرت عن المكيين أنهم قرءوه ، ذكر عن مجاهد أنه قرأه ، غير أنه كان يقرأ في موضع بل : أم.