لمقاتل يرى ـ ان الآية ٦٥ من الأنفال ـ لم تكن فرضا لا بد منه ، بل كانت تحريضا للمسلمين على لقاء أعدائهم ولو كانوا عشرة أمثالهم ، ثم خفف الله عنهم ذلك الى قتال مثليهم.
(فهي كقول المعلم لتلميذه يحثه على المذاكرة ، ويعده لتقبل ما سيكلفه إياه : انك ـ بما اعهد فيك من ذكاء وحب للعلم ـ تستطيع ان تذاكر من هذا الكتاب كل يوم مائة صفحة. ثم يتبع هذا بقوله : وانا الآن أخفف عنك فلا أكلفك هذا الذي تقدر عليه ، لأني اعلم ان عليك من العلوم الاخرى ما يحتاج الى مذاكرة ، فذاكر فى كل يوم عشرين صحيفة) (٤٩) اما الذين يقولون بالنسخ ـ فى الآية ٦٥ من سورة الأنفال ـ فهم يرون ان الآية فرضت على المسلمين الا يفروا من عشرة أمثالهم ، ثم نسخ الله ذلك بعدم الفرار من مثليهم فى الآية التالية.
وقد ورد ذلك فى الصحيح ، واثر عن السلف.
ولمقاتل ان يقول : ان ما روى عن السلف من نسخ هنا لا ينقض ما ذهبنا اليه ، فقد كانوا يطلقون النسخ على التخفيف وعلى كل تغيير يطرأ على الحكم (٥٠) ٢ ـ وفى نسخ صدر سورة المزمل بالآية الاخيرة منها (٥١) ، ذكر مقاتل ان
__________________
(٤٩) على حسب الله ، اصول التشريع الإسلامي : ٣٠٧.
(٥٠) لكن للقائلين بالنسخ ان يقولوا : ان الأمر للوجوب أصلا ، ولا صارف له هنا عن حقيقته ، وان الآية الثانية بدأت بقوله عزوجل (الآن خفف الله عنكم) وهذا يشعر بان الحكم قد تغير ، إذ لا معنى للتخفيف برفع ندب شيء كان مندوبا ، لأنه بطبيعة كونه ليس ملزما ، فلا يحتاج الى التخفيف ما داموا لا يؤاخذون على تركه. ويقول الأستاذ الخضرى (اصول الفقه : ٢٨١) معلقا على القول بنسخ الآية المذكورة : (وربما يقال ان الرخص مع العزائم كذلك ، ولم يقل احد ان الرخصة تنسخ العزيمة ، فآية التيمم لم تنسخ آية الوضوء. مع ان آية الوضوء توجبه على كل حال ، وآية التيمم توجب رفع الاول وإيجاب شيء آخر ، فكذلك هنا).
بينما ينقض ذلك الدكتور مصطفى زيد بقوله : (النسخ فى القرآن الكريم : ٢ / ٩٢٤ فقرة ١٢٤٢) : والحكم الذي شرع بالآية الثانية هنا ـ وهو التخفيف بإيجاب الثبات على كل مسلم امام اثنين بدلا من عشرة ـ لم يشرع على انه رخصة لا يجوز العمل بها الا عند تعذر العمل بالعزيمة ، التي هي الحكم الاول ، وانما شرع ليحل محل الحكم الاول فى كل حال. فلا يقال ان المسلمين فى حال القوة يجب عليهم الثبات لعشرة أمثالهم من الكفار ، لان هذا الحكم قد نسخ فلم يعد محل تكليف. ولا يعتبر المؤمنون مخالفين إذا فروا فى حال قوتهم امام ثلاثة أمثال او اكثر ، لأنه لم يعد الثبات واجبا عليهم ـ بعد النسخ ـ امام اكثر من مثليهم) ا. ه.
(٥١) قال تعالى فى أول السورة : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) سورة المزمل : ١ ـ ٣.
ويذكر مقاتل : ان الله فرض على الرسول والمسلمين قيام مقدار من الليل ـ نصفه او انقص من النصف او اكثر ـ وذلك قبل ان تفرض الصلوات الخمس. فكانوا لا يصلون الا بالليل ، ومكنوا على ذلك سنة ، فشق عليهم القيام. فانزل الله الرخصة فى قوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى