غرست تعاليمه فيهم من الرقة والرأفة والبعد عن التعصب الديني نوعا ما بالنسبة إلى اليهود (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (١) وفي تعاليمهم : «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر». ولقد أشار القرآن الكريم إلى سبب المودة فقال : ذلك بأن منهم قسيسين يقومون بالتعليم وتهذيب الخلق ، وتربية الفضائل وغرس المثل العليا ، ومنهم رهبانا يعبدون الله رهبة منه وخوفا ، وطمعا وأملا في ثوابه ، فهم بعلمهم هذا يعوّدون الناس الزهد والتقشف والبعد عن الدنيا وغرورها ، وبأنهم متواضعون لا يستكبرون.
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من القرآن ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من كل جانب ، فيضانا مما عرفوا من الحق الذي نزل على محمد صلىاللهعليهوسلم إذ هو مصدق لما معهم من الكتاب ، ومطابق لما وصف عندهم ، ولم يمنعهم عن ذلك عتوّ وعناد متأصل فيهم.
هذا حالهم ، أما مقالهم فيقولون : ربنا آمنا بك وبرسلك خاصة محمدا صلىاللهعليهوسلم فاكتبنا مع الشاهدين ، الذين يشهدون يوم القيامة للأنبياء والرسل وهم أمة محمد صلىاللهعليهوسلم : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢).
أىّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو؟ ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان ذلك الرسول المبشّر به في كتابنا إذ هو روح الحق ، وإنا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت نفوسهم ، وطهرت أرواحهم بالعقائد الصحيحة والمثل العليا وهم أتباع هذا النبي الكريم.
والمعنى : لا مانع من الإيمان بعد أن ظهرت الحجة ووضح الطريق ، ونحن نطمع في أن نكون في عداد الأبرار والأخيار من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم. فأثابهم الله وجازاهم بما قالوا عن عقيدة راسخة ونفس مطمئنة راضية ، وآتاهم جنات تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ، هؤلاء هم المسيحيون الأحرار الذين نظروا في تعاليم المسيح الحقيقية فوقفوا على سرها وتكشفت لهم جنباتها ،
__________________
(١) سورة الحديد آية ٢٧.
(٢) سورة البقرة آية ١٤٣.