نفسه ؛ بل الدنيا دار عمل ، وللجزاء بالكفر والإيمان دار أخرى ، وهذا كقوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] ، وهم لم يكونوا كاذبين في شهادتهم ومقالتهم (١) ، بل كانوا صادقين أنه رسول [الله](٢) ، وإن الله ـ تعالى ـ يعلم أنه رسوله ، ولكنهم كانوا اعتقدوا تكذيبه في قلوبهم ؛ فكانوا يظهرون خلاف ما أضمروا في أنفسهم ؛ فإلى ما أضمروا انصرف التكذيب ، لا إلى نفس القول ؛ كذا هذا.
ولأن أهل الكفر كانوا أصنافا : فمنهم من كان يرى إذا بسط عليه (٣) النعيم في الدنيا وأكرم فإنما بسط عليه لما استوجبه بفعله ، وإذا ضيق عليه وابتلي بالشدة فإنما ضيق عليه بإساءته وبما كسبت يداه.
ومنهم من كان يظن أنه من الله ـ تعالى ـ بمنزلة ، وأنه مستوجب للإنعام ، وأنه إذا بلي بضيق العيش وأصابته شدة ، أصابه ذلك من عند محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فيتشاءمون به ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [لنساء : ٧٨] ؛ وعلى هذا كان ظن فرعون [وقومه] ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١].
فقوله : (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) ، أي : أكرمه في نفسه بأن أصح جسمه ، أو جعله رئيس قومه ، (وَنَعَّمَهُ) ، أي : بسط الدنيا عليه : (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ؛ فكان ينظر بذلك.
وقوله : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي : إذا اختبره ؛ فضيق عليه رزقه ، فيقول : (رَبِّي أَهانَنِ) ؛ فكان يظهر بذلك الجزع والله ـ تعالى ـ اختبره بالنعم (٤) ؛ ليستأدي منه الشكر بما أنعم ، وابتلاه بضيق العيش ؛ ليصبر ، لا ليجزع ؛ فلا شكر [هذه النعم](٥) بل بطر ، ولا صبر على الشدائد ؛ بل جزع ؛ فجائز أن يكون المراد بقوله : (كَلَّا) ، منصرفا إلى هذا ردا لاعتقادهم وصنيعهم ، وهو أنه لم يكرم ولم ينعم ليبطر به ، ولا ضيق عليه رزقه ليجزع ، بل إنما أنعم ليشكر ، وقدر عليه رزقه ليصبر ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) جائز أنهم كانوا لا يكرمونه ويهينونه مع ذلك ؛ لأن إكرام اليتيم ليس بواجب ، أما إهانته فحرام.
__________________
(١) زاد في ب : كاذبين.
(٢) سقط في ب.
(٣) في ب : عليهم.
(٤) في أ : بالنعيم.
(٥) في ب : بالنعم.