وحيث ظهر كمال المحبّة قال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى.)
قال بعضهم : أهل الإرادة في الطلب ، والمرادون مطلوبون ، ألا ترى أن إبراهيم كان طالبا بقوله : (هذا رَبِّي) ، (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ، (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، والمراد مطلوب ، وذلك صفة الحبيب صلوات الله وسلامه عليه ، ألا ترى أنه لما قيل له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، استقبله الأمر من غير طلب.
قوله تعالى : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) : علّم بعضا بالأفعال ، وعلّم بعضا بكشف الصفات ، وعلّم بعضا بظهور الذات ، علّم أهل الملكوت بالعلم ما بان عن علم القدم ، وعلّم آدم الأسماء بغير العلل ، علّم الإنسان ما لم يعلم من نعوت القدمية ، وأسمائه الأزلية حين عاين الحق له بالصفة ، حيث قال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، ثم عاين له بالذات ، حيث قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، علّم العارف ما لم يعلم من أسراره المكتومة ، وأنبائه العجيبة ، وكلماته السرمدية التي كل حرف منها دليل إلى عيان عيانه ، وبيان بيانه.
قال سهل في قوله : (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) : أثبت في اللوح ما جرى العلم والقلم.
قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) : الإنسان الخسيس يطغى برؤية الدنيا الدنيّة ، وأي الإنسان هذا من الإنسان الذي استغنى بالله ، واستغرق في جمال الله ، واتصف بصفات الله ، وصار متحدا بالوحدة ، وسكرا من شراب العزة ، وغلبت عليه الأنائية ، فيطغى برؤية أنوار الاتصاف ، ولا يعلم أنه في حواشي بحار عظمته ، ولم يذق منها قطرة بالحقيقة ، فلما أعلمه الحق بأنه لا شيء وفي لا شيء من الربوبية أحوجه إلى مقام الإرادة برجوعه إليه بنعت الافتقار بعدما رجع بالصفة إلى معدن الذات ، وهذان المعنيان في قوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى.)
قال ابن عطاء : رؤية الغنى تورّث الطغيان والبطر ؛ لأن الغنى يورّث الفخر ، والفخر يورّث الطغيان :
قوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) : لما انكشفت صفات القدم لتحبيب كان أن يسكر وشطح ، وغلب بما رأى في نفسه من إحاطة أنوار الربوبية ، جرّه الحق من مقام الربوبية إلى معدن العبودية ، بأن نصّب له في سجوده حجال الأنس ، ومهّد له فيه بساط القدس ؛ ليدنو به منه ، ويقطع مفاوز الآزال والآباد في سجدة واحدة ، ليس الاقتراب بالاكتساب ، إنّما أراد خلو سره عن الدارين وتربيته في مقام العبودية ؛ حتى يكون إماما للصديقين والمتمكنين من