فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)) (١).
قوله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : لا تسمع قول الزائغين الذين يؤذونك ويقولون لست بحقّ ؛ فأنت على الحق المبين ، فاستمسك بالقرآن الذي هو شاهد على شرفك ، فأنت على الطريق المستقيم ، وهذا تسلية لقلب نبيه وتأديب لأمته ، وهذا عارف يتعرضه نفسه وشيطانه من الإنس والجن بالمعارضات العريضة بعد مكاشفاته ومعرفته ، ويمنعونه من سلوك الحقائق التي لا يعرفها أهل الرسوم من المقلدين في ظاهر العلم والعمل ، ويخاصمونه ؛ فإنه سبحانه أيّده بنصره ، ويسلى قلبه بهذا الخطاب المبارك.
قال ابن عطاء : أمر الله النبي صلىاللهعليهوسلم بالاستمساك والتمسك بالدين ، وهو صلىاللهعليهوسلم الإمام فيه ، ولم يخل من التمسك بما أمر به لحظة ، لكنه خاطبه لرفع درجاته وعظم محله ، لتكون أنت متأدبا بآداب التمسك والاقتداء والاستقامة ، وتعلم أن مثله إذا خوطب بمثل هذا الخطاب ما الذي ألزمك من الاجتهاد والمجاهدة ، ثم بيّن سبحانه أن نزول القرآن يوجب شرف نبينا وشرف أمته بقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي : هو وصفك ، ووصف من اتبعك من العارفين الصادقين ، يصفك القرآن ، ويصف قومك من الصادقين بما أنت عليه وما هم فيه من الأخلاق الجميلة والأعمال الزكية والدرجات الرفيعة والكرامات السنية والمقامات العلية ، ألا ترى إلى قول أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها حين سئلت عن خلق محمد صلىاللهعليهوسلم قالت : «كان خلقه القرآن» (٢) ، وأيضا أنه شرفك وشرف أمتك بأنك أهله ، وهم أهلك.
__________________
(١) فيه إشارتان : الأولى : إن القلب إذا كان خفيفا ؛ فالقوي أيضا كذلك ؛ لأنها تابعة له كما أن الرعايا تابعة للسلطان ، كما قيل : الناس على دين ملوكهم ، وثقله ، ومتانته ، إنما هو من خوف الله تعالى ، فإن الخائف من الله لا يميل إلى المنكرات ؛ بل يثبت عندما عيّن له من الشرائع ، وبقدر الخوف والعمل بمقتضاه ، يعرف مقادير الناس ، ومراتبهم في التقوى.
والثانية : إن الملوك لابد لهم من الرزانة ، والوقار ، والحياء في الصورة بلا تقليد ، وتلوين ، ورياء ، فإن ذلك مما يدلّ على ما في قلوبهم من المعاني والحقائق ، وقد طلب بعض الأولياء من الله تعالى أن يلقي في قلوب الناس هيبته في حقه ؛ لكون ذلك أقرب لقبول ما عنده من الحق ؛ فكأنه طلب أن يلقى ذلك في قلبه ، فإنه إذا كانت حقائق الصفات والأحوال في باطن الإنسان ؛ فظاهره يكون أهول وأهيب.
ولذا ترى ملوك الزمان وأمراءه يتكلّفون في الأوضاع ، ويرون من أنفسهم ما ليس في قلوبهم ، ومن ثم لا يعدّهم الناس في جملة المراجيح الرزان ؛ بل يسخرون بهم في خلواتهم ، والمتحققون المتشيّخون ، فما اشترى العارفون ذلك منهم بفلس ؛ لفرقهم بين الجيد والردىء ، والطيب والخبيث.
(٢) رواه البخاري في الأدب المفرد (١ / ١١٥) ، وأحمد (٦ / ٩١).