وجعل قلبها مجامع الأخلاق ، وكيد وكبدها مجامع الطبائع ودماغها منورا بنور عقل ؛ فلما كساها نور خلقه وكملها بقدرته ، وأدخلها روحه فصار آدم ثانيا مواضع كنوز ربوبيته وحقائق قدرته وعلمه ، وهذا معنى قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ).
ثم نزه نفسه عن المشابهة بالحدثان والتغاير بتغاير الزمان والمكان بقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)) قدس جلاله عن الإبعاض والتجزؤ والتمثيل والتصوير ما أحسن صنعه وقدرته عين جاء أبناء آدم عالما ، وجعل في آدم ما في جميع العالم.
وقال الحسين : الخلق متفاوتون في منازلهم ، ومقامات خلقهم وصفاتهم ، وقد كرم الله بني آدم بصورة الملك والملكوت وروح النور ونور المعرفة والعلم ، وفضلهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.
وقال أيضا : خلق بني آدم بين الأمر والثواب وبين الظلمة والنور فعدل خلقهم وزاد المؤمنين بإيمانهم نورا مبينا وهدى وعلما ، وفضلهم على سائر العالمين ، كما نقلهم في بدء خلقهم من حال إلى حال ؛ فأظهر فيهم الفطرة والإياب وتكامل فيهم الصنع والحكمة والبينات ، وتظاهر عليهم الروح والنور والسبحات من كانوا ترابا ونطفة وعلقة ومضغة ثم جعله خلقا سويا إلى أن كملت فيهم المعرفة الأصلية ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) إلى قوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
وقال الحسين : خلق الخلق فاعتد بها على أربعة أصول الربع الأعلى الهيبة والربع الاخر آثار الربوبية والربع الاخر النورية بين فيها التدبير والمشيئة والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة والإدراك والتمييز ولغات الكلام والربع الاخر الحركة والسكون كذلك خلقه فسواه.
وقال أيضا في قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) : فطر الأشياء بقدرته ودبرها بلطيف صنعه ، فأبدى آدم كما شاء بما شاء ، وأخرج منه ذرية على النعت الذي وصف من مضغة وعلقة ، وبديع خلقه ، وأوجب لنفسه عند خلقته اسم الخالق ، وعند صنعته الصانع لم يحدثوا له اسما كان موصوفا بالقدرة على إبداء الخلق ؛ فلما أبداها أظهر اسمه الخالق للمخلوق ، وأبرزه لهم ، وكان هذا الاسم مكنونا لديه مدعوا به في أزله سمى بذلك نفسه ، ودعا نفسه به ، فالخلق جميعا عن إدراك وصف قدرته عاجزون ، وكل ما وصف الله به نفسه فهو له ، وهو أعز وأجل أظهر للخلق من نعوته ما يطيقونه ، ويليق بهم (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).