ولم لطالع لا يعلمه إلا الله ؛ فهو أخفى من الحقائق ، فإذا ظهر معلومه أبدى علمه.
قال الواسطي : السرّ ما خفي على العباد ، والذي هو أخفى ما لم يقل له كن.
قال الجنيد : يعلم سره فيك ، وأخفى سره عنك.
وقال جعفر الصادق : السرّ موضع الإرادة ، وأخفى موضع الخطرة والمشاهدة.
وقال الأستاذ : فالنفس ما تقف على ما في القلب ، والقلب لا يقف على أسرار الروح ، والروح لا سبيل له إلى حقائق السر ، والذي هو أخفى من السر فما لا يطلع عليه إلا الحق ، ويقال : الذي هو أخفى من السر لا يفسده الشيطان ، ولا يكتبه الملكان ، ويستأثر بعلمه الجبار ، ولا يقف عليه الأغيار ، ولما تفرد بنفسه بالإطلاع على السر والخفيات نفى عن ساحة كبريائه من لم يستحق للفردانية الأزلية ، والعلم الشامل بأسرار الحوادث وخفيات الضمائر ، ووصف نفسه بذلك.
وقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)) فمعاني الأسماء بالحقيقة سر من حيث يعبر حقائق الصفات ، وما في الذات من علوم القدمية وأسرار الأزلية وهو أخفى من سر الأسماء أخبر سبحانه حبيبه من أسراره التي بينه وبين كليمه موسى وتلك الأسرار أعجب العجائب.
أما غرب الغرائب من علوم أسراره وحقائق أنواره بقوله : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩)) ما أطيب ذكر قصة الكليم للحبيب خص أن الحبيب الأكبر ذكر حال الكليم للحبيب ؛ لأن الحبيب يستأنس بسميه من الأحياء ، لذلك قصّ الله قصة الأنبياء لحبيبه ثم بيّن يد وحال كليمه بقوله : (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً).
لما كمل كليم الله كمل في الإرادة ودخل في الإرادة ودخل من الإرادة إلى مقام المحبة ترك الوسيلة الصغرى وهي خدمة شعيب ، ووقع في الوسيلة الكبرى ، هي رؤية النار في الشجرة وتلك بداية مكاشفته وسماع خطاب الحق سبحانه ، فوقعت مكاشفته قبل الخطاب وهو مقام الكبراء في المعرفة ، ثم وقع بعد ذلك في بحر الخطاب ، وذلك قوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) ؛ فإذا أراد الله أن يعرفه مقام رؤية الصفات في الأفعال تجلى بجلاله لكسوة النار ، ثم تجلى من كسوة النار لكسوة الشجرة ثم تجلى من الشجرة لموسى ، وذلك مقام أسرار الالتباس الذي يجذب بالحق عشاقه إلى معادن الألوهية ليصيروا بعد ذلك موحدين ؛ فرباهم في البداية في مقام العشق برؤية أنوار الصفات في الأفعال حتى لا يفنوا بالبديهة في سطوات عظمته ، ولو يريهم صرف عيان الذات يصيرون مضمحلين في أنوار قدسه جعل الشجرة مرآة للنار ، وجعل النار مرآة للنور ، وتجلى منهما لموسى فرأى موسى نيران الكبرياء ، وأنوار البقاء