الرحمن ، يقلبها كيف يشاء» (١) يقلّب بحر القلوب والأرواح والأسرار والعقول في جبال أنوار الذات ، وأشجار أنوار الصفات ، وعروش أنوار الأفعال ، ويكملها بغرائب خطابه بأكل ثمار أنوار الصفات والذات والأفعال ، بقوله : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ، ونور بهار أنوار الذاتية ، وأزهار أنوار الأفعالية ، ثم أمره لسلوك سبيل الازال والاباد والقدم والبقاء بنعوت الفناء بقوله : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) لتعرف في طيرانها وسيرانها ثمار أشجار غيبه ، وتأكل رياحين أنسه ، وتطير في صحاري قدسه ، وتعرف جلال وجوده تعالى الله عن كل علة ، فإذا تم دورها في بساتين العيوب (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) شراب معرفته بقدم جلال وعز بقائه ، وأنوار ذاته ، فاختلاف ألوانه باختلاف رؤيتها أنوار كل صفة ، فعلى قدر رؤية الصفات يكون ألوانها ، فمن لون المحبة ، ومن لون العشق ، ومن لون الأنس ، ومن لون الفكر ، ومن لون القبض والبسط ، ومن لون الخوف والرجاء ، ومن لون البسط والانبساط في هذه المقامات شفاء لكل مريض المحبة ، وسقيم الألفة ، وملدوغ الشوق ، وسليم المعرفة ، ومن شأن ذلك العسل لون نوري من بهاء الله وطعم حلاوة من حلاوة وصلة الله ، فإذا حصل ذلك العسل من مشاهدة الله في حواصل تلك النحل ، يحصل من ذلك العسل الذي صدر من تجلي الربوبية لها شمع العبودية ، فإذا قهر عليه نيران المحبة تتميز بين الربوبية والعبودية ، فيصير عسل الربوبية موضع ذوق مقام الأنس ، كقوله عليهالسلام : «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (٢) ؛ فمن شرب قطرة منه بنعت الجذب ، ومتابعته بنعت المحبة ، يشفيه من كل سقم من علل الشهوات النفسانية ، ولسقم الشيطانية ويصير مربي صحيحا بأنوار الربوبية ، فحالاته شراب الوصال يليق بالمخمورين بخمار الإرادة ، ويكون شمعه أوصاف العبودية الخالصة بسرجه من نور كواشفه ومعارفه ، فيضيء لكل سالك طريقه ، وكل سائل رشده ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ).
قال ابن عطاء : ألهمها ودلّها على الموضع ، وعلّمها كيف يضع ما في بطنها ، لا يضعها إلا على حجر صان أو خشب نظيف ، لا يخلطه طين ولا تراب ، ثم قال تعالى : (كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : من الذي جعلته رزقك ، ثم أمره بالتواضع ، فقال تعالى : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) ، ثم قال : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) للنفوس لا للقلوب ، فمن
__________________
(١) رواه مسلم (٢٦٥٤) ، وابن حبان (٣ / ١٨٤) ، والحاكم في «المستدرك» (٢ / ٣١٧).
(٢) رواه أحمد (٢ / ٣٧٧) ، والترمذي (٣ / ١٤٨) ، وأبو داود (٢ / ١٥).