وأيضا : فيه تقاضا جريان العبودية في مشاهدة الربوبية كقوله عليهالسلام : «أن تعبد الله كأنّك تراه» (١).
وأيضا أي : كن في عيون رعايتنا وحفظنا ، ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد ؛ فإن من نظر إلى غيري احتجب بغيري عني.
قال بعضهم : أسقط عن نفسك تدبيرك ، واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك ، ومشاهدة أحد من الخلق.
وقال بعضهم : اصنع الفلك ، ولا تعتمد عليه ؛ فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة ، فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت عن أعيننا.
قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) : إن الله سبحانه أدّب نبيه نوحا عليهالسلام هاهنا عرفه سابق العلم في غرقهم وهلاكهم ؛ ليعرف طريق الدعاء ومكانه ، وعرف أنه سبق بالدعاء عليهم.
وقيل : ذلك ولم يقبل هاهنا ؛ لأن دعاء الأول موافق القدر ، والعارف المجاب إذا دعا على أحد بعد ذلك.
ألا ترى إلى قول ذي النون عليهالسلام حيث دعا على أهل سعايته كيف كانوا يفرقون ، فقال بعد ذلك : إلهي تبت ، ألا أدعو على أحد من عبادك بعد ذلك ، وفيه وصف رقة قلب نبيه عليهالسلام عليهم بعد احتمال جنونهم وأذيتهم ، وهكذا يكون شأن الصادقين.
قال ذو النون : إن كنت قد أيدت في الأزل بشيء من العناية فقد نجوت ، وإلا فإن النداء والدعاء لا ينقذ الغرقى.
(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢))
قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) : هذه الاية وافقت قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ) ؛ لأن سوابق السعادة والشقاوة لا تتغير بصنائع الحدثان ، ولا يزال هما على وصفهما إلى الأبد ، كما كانا في الأزل.
قال بعضهم : بالسبق قيد العواقب ، فمن أجري له في السبق السعادة كانت عاقبته
__________________
(١) تقدم تخريجه.