فجازهم من سطوات القهر ؛ لأن رحمته سبقت على غضبه ، ولولا كشف جماله لهم لبقوا في حجاب النكرة واحترقوا.
وأيضا : (لَمَّا آمَنُوا) أي : عرفوا صفات الحق بعد بروز أنوارها في قلوبهم ارتفع عنهم عذاب البعد والفراق ، ثم بيّن اختصاص المختصين واصطفائية المصطفين أنها بمشيئة الأزلية ولا بعلة الاكتساب يكون الولي وليّا ، بل بفواتح كرمه وسوابق نعمه قوما من العارفين وبقهر قدمه يضع آخرين.
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١).
وصرح الحق أن لو شاء لخلقهم جميعا مستعدين للولاية بقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) ، ولكن جعل قوما غذاء رحمته السابقة ، وجعل قوما غذاء قهره الأول ؛ لتكون الصفتان على قوام حظهما من البرية ، وتبين خاصية أحبائه وطرد أعدائه ، وفيه إياس الطامعين في إيمان من ليس له أهليه لمعرفته.
قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : كل نفس ليس لها استعداد معرفته وقبول محبته ، وليس بها من الله سابقة حسن عنايته في الأزل بنعت اصطفائيتها بالولاية كيف تعرفه ، ومعرفته نتائج أنوار طوالع صفاته في قلوب العارفين.
__________________
(١) (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) إشارة بالاسم الرّب إلى أن ما بعده من قبيل القرينة ، إمّا بالنسبة إليه صلىاللهعليهوسلم فبالعلم ، وإمّا بالنسبة إلى قومه فبإبقاء بعضهم على حاله من الجهل والمعصية ، وعبارة الخطاب له صلىاللهعليهوسلم وإشارته لكل من هو بصدد التبليغ من الورثة.
قوله عزوجل : (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أراد بمن في الأرض : الأنس والجن ، كما دلت عليه كلمة من ، فإنهم هم المكلّفون : منهم المؤمنون ، ومنهم الكافرون.
وأمّا من في السماء ، وما في الأرض من الملائكة ، وما عدا الإنس والجن ؛ فهم مؤمنون مسبّحون ، باقون على فطرته الأصلية ، لا يحتاجون إلى الدعوة والتبليغ.
قوله عزوجل : (كُلُّهُمْ جَمِيعاً) أي مجتمعين في الإيمان ؛ كاجتماع الملائكة في سجدة آدم ، واجتماع بعض القبائل والطوائف على الإيمان ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) [النصر : ٢] ؛ فإن بعض الناس إذا دخلوا في دين الله مجتمعين بمشيئة الله تعالى ؛ فكلهم من شأنهم الدخول فيه كذلك ؛ لكن الله لم يشأ ذلك لحكمة تقتضيه ؛ وهي كون الموطن موطن الجمال والجلال ، وظهور آثار الأسماء الإلهية مطلقا ، فلو آمن كلهم ؛ لبقى بعض الأسماء بحيث لا حكم له في العين ، وذلك ينافي جمعية نشأة الإنسان.