هذه الآية على أثر ما ذكر.
وقال بعضهم : لما صدّ المشركون رسول الله وأصحابه يوم الحديبية وعد الله المسلمين أن يظهرهم وأن يفتح لهم مكة ، وقال : وتصديق ذلك ما ذكر في سورة الفتح ، وهو قوله : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) الآية [الفتح : ٢٥] ، حتى قال في آخر ذلك : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ...) الآية [التوبة : ٣٣] ؛ وعد رسوله في القرآن أنه يستخلفهم في الأرض وينزل فيها كما استخلف الذين من قبلهم فجعلهم خلفاء في الأرض.
وقال قائلون : كان وعده إياهم في التوراة والإنجيل والزبور أنه يجعلهم خلفاء في الأرض كما فعل بالذين من قبلهم ، ولكن كيفما كان ذلك الوعد لهم في القرآن أو في الكتب المتقدمة ففيه أمران اثنان :
أحدهما : البشارة للمسلمين ، والحجة على الكافرين ؛ لأنه وعد لهم الأمن في النصر في وقت لا يرجون ولا يطمعون [في] النجاة فضلا أن يطمعوا [في] الاستخلاف ، والتمكن في الأرض ، وإظهار الدين الذي ارتضى لهم وهو الإسلام على الأديان كلها ، فإذا كان مثل ذلك الوعد والبشارة لا يطمع ولا يرجى في مثل ذلك الوقت والخوف ـ علم أنه إنما بشرهم بذلك بوحي من الله ، ووعد منه ، فكان ما وعد دل أنه بالله وعد ذلك وبشر ، فذلك حجة على أولئك ، وبشارة للمؤمنين (١) ، والله أعلم.
وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
قوله : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) ليس بشرط فيه ؛ لأنه لو كفر قبل ذلك ـ أيضا ـ فهو فاسق.
ثم من الناس من قال : ومن كفر بعد هذه النعم التي أنعمها عليهم ولم يشكره عليها فهو كذا.
وجائز أن يكون قوله : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) ليس له جواب.
وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) هو ظاهر ، قد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.
ثم قال : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) قال بعضهم : (مُعْجِزِينَ) أي : فائتين في الأرض هربا من عذابه ؛ فلا يدركهم.
وقال بعضهم : سابقين في الأرض هربا ـ أيضا ـ حتى لا يجزون بكفرهم ، وهو واحد
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٣٩ ، ٤٤٠).