وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩)
وقوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) : قال بعضهم : عاد كل ماء إلى من حيث خرج : ما أرسل من السماء عاد إليها ، وما خرج من الأرض غاض في الأرض وغار فيها.
وقال بعضهم : لا ولكن أمسك السماء من إرساله ، وأمسك الأرض من نبعه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ليس على القول لهم ، ولكن الله أمسكهما من إرساله ونبعه.
ويحتمل على القول منه لهم باللطف جعل فيهم ما يفهم هذا.
(وَغِيضَ الْماءُ) أي : غار الماء في الأرض.
(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) : بهلاك قوم نوح ويحتمل على التكوين على ما ذكر (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) أي : استقرت على الجودي وهو جبل (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا ويحتمل بعدا للقوم الظالمين من رحمة الله (١). وقال القتبي (٢) : مرساها أي تقف.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) : يمنعني من الماء ، وقال : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) قال القتبي (٣) : لا معصوم اليوم من عذاب الله ؛ كقوله : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ)
__________________
(١) في هذه الآية ألفاظ كل واحد منها دال على عظمة الله ـ تعالى ـ :
فأولها : قوله : (وَقِيلَ) ، وهذا يدل على أنه ـ سبحانه ـ في الجلال والعظمة بحيث أنه متى قيل لم ينصرف الفعل إلا إليه ، ولم يتوجه الفكر إلا إلى ذلك الأمر ؛ فدل هذا الوجه على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوى والسفلي إلا هو.
وثانيها : قوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ؛ فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام ، والحق ـ تعالى ـ مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ؛ فصار ذلك سببا لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله ـ تعالى ـ وعلو قدره وقدرته وهيبته.
وثالثها : أن السماء والأرض من الجمادات ، فقوله : (يا أرض ويا سماء) مشعر بحسب الظاهر على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات ، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأن نفوذ أمره على العقلاء أولى ، وليس المراد منه أنه تعالى يأمر الجمادات ؛ فإن ذلك باطل ، بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريرا كاملا.
ورابعها : قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ومعناه : أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزما فقد وقع ، ذلك يدل على أن ما قضى الله ـ تعالى ـ به فهو واقع في وقته ، وأنه لا دافع لقضائه ، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه. ينظر اللباب (١٠ / ٤٩٩).
(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٠٤).
(٣) ينظر : السابق.