أفسد متاع رجل وأحرقه ناسيا أو مخطئا؟
فإن قالوا : ذلك لازم عليه ؛ قيل فكيف قلتم : إن الحديث جاء في الأحكام ، وأنتم توجبون الضمان؟
وقال بعضهم وجه الحديث عندنا : أن الأمم قبل أمتنا كانت مأخوذة بالخطإ والنسيان فيما بينها وبين ربها ، فرفع الله تعالى الحرج عن هذه الأمة في ذلك ؛ تفضلا منه علينا من بين الأمم ، فأما الغرامات (١) والضمانات (٢) في الأحكام التي بين الناس [فهي لازمة لهم] خطأ فعلوا أو عمدا ، والله أعلم.
وفي قوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) دلالة النقض (٣) على المعتزلة ؛ لأنهم
__________________
ـ فبين سبحانه وتعالى أن القتل في ذاته جريمة منكرة ليس من شأن المؤمن أن يقدم عليها ، ولا من طبعه الميل إليها ، وأنه إن فعل ذلك إنما يفعله عن كره منه ، وعلى غير قصد ، وأنه في هذه الحالة عليه أن يخرج رقبة من ذل العبودية تتمتع بنسيم الحرية ، بدل تلك الرقبة التي فارقت الحياة الدنيا ، فإن كان معسرا عاجزا عن تحرير تلك الرقبة ، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين تهذيبا لنفسه ، وإشعارا لها بما وقع منها من التقصير ؛ لعل الله يغفر لها ما فرط من ذنب ، إنه غفور رحيم.
وهذه الآيات بظاهرها تفيد أن الكفارة إنما تجب في قتل الخطأ دون العمد ؛ إذ القاتل عمدا جعل الله جزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما.
ومن هنا اتفقت كلمة الفقهاء على وجوب الكفارة في قتل الخطأ.
ينظر : الشرح الكبير (٩ / ٢٥٤) ، والمحلى (١٠ / ٢٥٩) ، والزيلعي (٦ / ١٠) ، والمغني (٩ / ٦٧٠) ، والمهذب (٢ / ٢٣٩) ، وينظر الكفارات لحسن علي حسنين الكاشف.
(٩) لكفارة القتل نوعان :
أحدهما : تحرير رقبة مؤمنة.
وثانيهما : صيام شهرين متتابعين.
ولا ثالث لهما في رأي جمهور الفقهاء ؛ لأن الله ذكرهما فقط ولم يذكر غيرهما فكان ذلك مشعرا بأن الإطعام ليس مشروعا فيها.
وذهب الشافعي في قول له ، وأحمد في رواية عنه : إلى أن لها نوعا ثالثا هو : إطعام ستين مسكينا ؛ قياسا على كفارة الظهار ، والمعروف من مذهبيهما خلاف ذلك.
ينظر : الخطيب على المنهاج (٤ / ١٠٨) ، والمغني (٩ / ٦٧١).
(١) الغرامات ، جمع : غرامة.
وهي في اللغة : ما يلزم أداؤه ، وكذلك المغرم والغرم ، والغريم : المدين وصاحب الدين أيضا ، وفي الحديث في الثمر المعلق : «فمن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه».
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
ينظر : لسان العرب (غرم) والقاموس المحيط (غرم).
(٢) من معاني الضمان في اللغة : الالتزام والغرامة ، وفي الاصطلاح عند الجمهور هو : التزام دين أو إحضار عين أو بدن. والعلاقة بين الغرامة والضمان : أن الضمان أعم من الغرامة.
ينظر : لسان العرب (ضمن) والقاموس المحيط (ضمن) ، وحاشية القليوبي (٢ / ٣٢٣).
(٣) وحد النقض : انتفاء الحكم عما ادعي له من العلة. وقيل : وجود العلة مع فقد ما ادعي من حكمها.
وقيل : إبراء العلة حيث لا حكم. ينظر : الكافية في الجدل (ص ٦٩).