__________________
ـ الذي أسهرت ليلك ، وأظمأت نهارك. وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر : فيأتي المؤمن شاب حسن اللون ، طيب الريح ، فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح. وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.
فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية ، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية ، مناسبة لها في الحسن والقبح. فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك ، وتتصور بصورة النار ، وعلى ذلك حمل قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)[التوبة : ٤٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ...) الآية [النساء : ١٠] ، وكذا قوله صلىاللهعليهوسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة : «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم». ولا بعد في ذلك ؛ ألا ترى أن العلم يظهر في عالم المثال في صورة اللّبن؟!
وقيل : صحائف الأعمال هي التي توزن ، ويؤيده حديث البطاقة ؛ فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة. فينشر له تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل منها مد البصر ، فيقول : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا ، يا رب! فيقول : أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل ، فيقول : لا. يا رب ، فيقول : بلى. إن لك عندنا حسنة ؛ فإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» فيقول : يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال : إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة».
وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث : «يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة». ثم قرأ : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)[الكهف : ١٠٥].
وفي مناقب عبد الله بن مسعود ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أتعجبون من دقة ساقيه؟! والذي نفسي بيده ، لهما في الميزان أثقل من أحد».
قال الحافظ ابن كثير : وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار ، بأن يكون ذلك كله صحيحا فتارة توزن الأعمال ، وتارة يوزن محلها ، وتارة يوزن فاعلها. والله أعلم. انتهى.
قال أبو السعود : وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي ، والحكم العادل. وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين ؛ بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية. قالوا : إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء. ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك ؛ لأنها أعراض قد فنيت. وعلى تقدير بقائها ، لا تقبل الوزن. انتهى ، وأصله للرازي.
قال في العناية : فمنهم من أول الوزن بأنه بمعنى القضاء ، والحكم العدل ، أو مقابلتها بجزائها ؛ من قولهم : وازنه ، إذا عادله. وهو إما كناية أو استعارة. بتشبيه ذلك بالوزن المتصف بالخفة والثقل ، بمعنى الكثرة والقلة. والمشهور من مذهب أهل السنة : أنه حقيقة بمعناه المعروف. انتهى.
فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل.
قال في فتح البيان : وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه. بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة لأحد. فهذا إذا لم تقبله عقولهم ، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم : من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى جاءت البدع كالليل المظلم ، وقال كل ما شاء ، وتركوا الشرع خلف ظهورهم. ـ