__________________
ـ ومن الواضح أن القرآن لم يكن من همه أن يخالف الجاهليين في كل شيء ، حتى في الأصوات الموسيقية ، فليس بمستبعد أن تكون فواتح السور إشارات صوتية لتوجيه الترتيل ، وأن تكون متابعة لبعض ترانيم الجاهليين».
ثم توقف في قبوله على ما تكشف عنه دراسة أصول الموسيقى في الكنائس الحبشية والشامية ، ولو كان كذلك لنقل عنهم أيضا ، ولأغنى ذلك علماءنا عن كثرة التأويلات التي أوجزتها.
ويرى الأستاذ / عبد الكريم الخطيب أن هذه الحروف «ترسم لمرتل القرآن أسلوبا خاصّا في التلاوة» ، وهو رأي يقبل بعد درس القرآن على المستوى الصوتي لما تفتتح به السور من الحروف المقطعة وآيات هذه السور ، مما يكشف لنا عن العلاقة الصوتية بين مطلع السورة ومقصدها.
فقد ذكر أحد الباحثين أن «الفاقهين من العلماء تتبعوا الحروف المقطعة في أوائل السور ، فوجدوا أن كل سورة من هذه السور ، قد اختصت بما بدئت به ، فلم تكن لترد (الم) في موضع (الر) ... ؛ وذلك لأن هناك تناسبا بين افتتاحية السورة وآياتها ، فكل سورة بدئت بافتتاحية معينة تكون أكثر كلماتها ، وحروفها مماثلة لها» ، لكنه لم يذكر لنا تعليلات لعدم إمكانية استبدال الافتتاحات.
والزركشي ـ رحمهالله ـ ذكر ذلك في الحروف المفردة ، وكشف عن العلاقة الصوتية بين مطلع السورة ومقصدها ، يقول : «ومن ذلك : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)[ق : ١] ؛ فإن السورة مبنية على الكلمات الكافية من ذكر القرآن ، ومن ذكر الخلق ... وسر آخر هو أن كل معاني السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح» ، وضرب مثلا أيضا بسورة (ص) وما اشتملت عليه من الخصومات.
وكان كلامهم ـ كما ترى ـ ذا صلة وثيقة بشأن بيان العلاقات ، وكان اتساع اجتهاداتهم بشأن الحروف المقطعة ، منبها لنا إلى فهم واستخراج العلاقات في فواتح سور الذكر الحكيم كله.
والدكتور المطعني يمضي في هذا النسق ، فيذكر لنا خصائص السور المفتتحة بالشرط ، ويلحظ أنماط الأساليب داخل هذه السور ، وكان مما قال في هذا الشأن : «والقيمة البيانية لهذا المطلع الشرطي التي من أجلها ـ والله أعلم ـ آثر القرآن افتتاح هذه السور بها : هي أن الأسلوب الشرطي يمتاز بربطه بين أجزاء الكلام ربطا ملاحظا فيه ترتب المسبب على السبب ، فإذا ذكرت أداة الشرط ، وأردفت بفعل الشرط ، تشوقت النفس إلى ذكر ما سيكون ، فإذا ذكر الجواب بعد هذه الإثارة وهذا التشويق تمكن أيما تمكن».
فقد تمخض حديثهم في الحروف المقطعة عن الكشف عن بعض العلاقات الصوتية والعلاقات التركيبية ، فكان لأحد الباحثين أن يعمم ذلك في الذكر الحكيم فيقول : «وقد ضمن الله فاتحة كل سورة ما اشتملت عليه تلك السورة من المقاصد النافعة للبشر في الدين والدنيا ، وأبرز ذلك في عبارة هي الغاية ، فيما عرف من براعة الاستهلال ثم صرف المعاني من غرض إلى غرض».
وكأن كلامهم في هذه القضايا التي أشرنا إليها بيان لطرائق الكشف عن علاقات المطالع بالمقاصد ، ويمكن أن يكون كلامهم في القضيتين الأوليين أطرّا عامة تهدي في موضوع دراستنا.
وينظر : المحرر الوجيز (١ / ١٣٨) ، وبراعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور (٢١٥) ، وخصائص التعبير في القرآن وسماته البلاغية (١ / ٥٩) ، والبرهان (١ / ١٦٧ ، ١٦٩) ، والإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق (١٦٦) ، والسر الغني لزكي مبارك (١ / ٤٧) ، والحروف المتقطعة في أوائل السور القرآنية (٩٣) ، وخصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية (١ / ١٦٣ ، ١٦٤) ، وإعجاز القرآن : د / السيد الحكيم (٧٢).