وابن مريم لا يحتمل أن يكون إلها.
والثاني : أخبر أنه رسول قد خلت من قبله الرسل ، أي : قد خلت من قبل عيسى رسل مع آيات وبراهين لم يقل أحد من الأمم السالفة : إنهم كانوا آلهة ، فكيف قلتم أنتم بأن عيسى إله ، وإن كان معه آيات وبراهين لرسالته؟!
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ).
قيل : مطهرة عن الأقذار كلها ، صالحة.
وقيل : (صِدِّيقَةٌ) : تشبه (١) النبيين ، وذلك أن جبريل ـ عليهالسلام ـ لما أتاها وقال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٩] صدقته كتصديق الأنبياء والرسل الملائكة (٢) ، وأما سائر الخلائق : إنما يصدقون الملائكة بإخبار الرسل إياهم ، وهي إنما صدقت جبريل بإخباره أنه ملك ، وأنه رسول ؛ لذلك سميت صديقة ، والله أعلم.
وقيل : كل مؤمن صديق ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ...) [الآية](٣) [الحديد : ١٩].
وقوله ـ عزوجل ـ : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ)(٤) : فيه الاحتجاج عليهم من وجهين :
أحدهما : أن الجوع قد كان يغلبهما ويحوجهما إلى أن يدفعا ذلك عن أنفسهما ، ومن غلبه الجوع وقهره كيف يصلح أن يكون ربّا إلها؟!.
والثاني : أنهما إذا احتاجا إلى الطعام لا بد من أن يدفعهما ذلك إلى إزالة الأذى عن أنفسهما ودفعه ، والقيام في أخبث الأماكن وأقبحها ، فمن دفع إلى ذلك لا يكون إلها ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) : والآيات ما ذكر من وجوه المحاجة عليهم :
أحدها : أنه ابن مريم ، ومن كان ابن آخر لا يكون إلها.
__________________
(١) في ب : شبه.
(٢) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٥٤٥) ، ونسبه للحسن البصري والرازي في تفسيره (١١ / ٥٢).
(٣) سقط من ب.
(٤) قال القاسمي (٦ / ٣٢٠) : إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى ، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهمالسلام ، ترقيا في باب الاستدلال من الجليّ للأجلى ، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم ، حتى إذا لم يسلّم في الجلى لغموضه عليه ، ويورد له الأجلى تعريضا بغباوته. فيضطر للتسليم ، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا.