فمنهم من لا يرى على ما في الجسد من الروحانى فناء ، والبعث هو إسقاط الأجساد وخروج ما فيها من الروحاني بصورها.
ومنهم من يقول : تفنى وتعاد على حالها ، ومعلوم أن ذكر الجديد لا يحتمل بلا ذهاب الأصل ، وذكر الإعادة بلا فوته ، وقال : (مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء : ٥١] ، وجعل إنشاء الأولى (١) دلالة للأخرى ، وليس ثمّ أخرى ، بل هي الأولى ، والأولى هي ـ على ما يزعمون ـ غير معروفة عند المنكرين (٢) ؛ فيحتج عليهم بها ، بل يجب أن يعرفوا الأولى أولا ، ثم يساعدوا على نفي البعث ، ويلزموا الإظهار.
والدهرية (٣) ومنكري البعث يقولون في جميع العالم بالظهور بعد الكون ، وبالكون في الأصول بالقوة ، ثم الظهور بالفعل ، فكيف ينكرون البعث ليحتج عليهم بالخلق الأول؟! والله أعلم.
وقال قوم بالبعث بالأجساد على ما كانت ، لكنها كانت في الدنيا منشأة للفناء ، مشتمل عليها آثار الفناء ، ويحيط [بها] أعلام الهلاك ، ومن آفات (٤) كلها وسواتر تحجبن عن أعمال لطائف الجواهر ، وعن إدراك الروحانيين ، وإلا فهي كما وصفهم الله ـ تعالى ـ أنه خلقهم في أحسن تقويم ، وكرمهم بأقوم جوهر ، وأكمل أسر ، وأنقى خلقة ، فإذا وقعت عليهم الآفات ، وأعيدوا للبقاء ؛ فيزول عنهم جميع الظلمات التي هن حواجب وسواتر لهم على الإحاطة بحقائق الأشياء وبواطنها ، وعلى شكلهم تنشأ الأجساد (٥) المجعولة أجزاء لهم ، فيلحقون بجميع اللطائف جسدا بما فيها من الجوهر الروحاني [و] تصير هذه في اللطف كذلك الجوهر ، وهي لما تنقل إلى ألطف من ذلك ، وأنور لهم كالأرواح ؛
__________________
(١) في ب : الأول.
(٢) في ب : المنكر.
(٣) الدهريون أو الطبيعيون : هم قوم لا يثبتون معقولا ولا يهديهم عقلهم ونظرهم إلى اعتقاد ولا يرشدهم فكرهم إلى معاد. قد ألغوا المحسوس وركنوا إليه وظنوا أنه لا عالم سوى ما هم فيه من مطعم شهي ومنظر بهي ولا عالم وراء هذا المحسوس. ومن الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول وهم سوفسطائية. ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول وهم الطبيعيون. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود وأحكام وهم الفلاسفة الدهرية. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام وهم الصابئة ومنهم من يقول بهذا كله وبشريعة ما ، ولا يقول بشريعة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم وهم المجوس ، واليهود والنصارى ، ومنهم من يقول بهذا كله وهم المسلمون. ينظر : الملل والنحل للشهرستاني القسم الثاني ص (٦٦١ ـ ٦٦٦).
(٤) في ب : آفاق.
(٥) في ب : أجاد.