الطير ، وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها ، أن هذه الحالة هي أغرب أحوالها ، فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها ، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كلّ شيء. ثم زاد في البيان فقال : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي : كلّ واحد مما ذكر ، والضمير في علم : يرجع إلى كلّ ، والمعنى : أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي ، وتسبيح المسبح ، وقيل المعنى : أن كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه. قيل : والصلاة هنا بمعنى التسبيح ، وكرّر للتأكيد ، والصلاة قد تسمى تسبيحا. وقيل : المراد بالصلاة هنا الدعاء ، أي : كل واحد قد علم دعاءه وتسبيحه. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم علمها الله ذلك وألهمها إليه ، لا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية ، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه وعظيم شأنه ، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) هذه الجملة مقرّرة لما قبلها ، أي : لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم ، ويجوز أن يكون الضمير في (عَلِمَ) لله سبحانه ، أي : كلّ واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له وتسبيحه إياه ، والأول : أرجح لاتفاق القرّاء على رفع كل ، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى. وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء علم : على البناء للمفعول. ثم بين سبحانه أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له لا لغيره (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) لا إلى غيره ، والمصير : الرجوع بعد الموت. وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع. ثم ذكر سبحانه دليلا آخر من الآثار العلوية ، فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) الإزجاء : السوق قليلا قليلا ، ومنه قول النابغة :
إني أتيتك من أهلي ومن وطني |
|
أزجي حشاشة نفس ما بها رمق |
وقوله أيضا :
أسرت عليه من الجوزاء سارية |
|
تزجي الشّمال عليه جامد البرد |
والمعنى : أنه سبحانه يسوق السحاب سوقا رقيقا إلى حيث يشاء (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي : بين أجزائه ، فيضم بعضه إلى بعض ، ويجمعه بعد تفرّقه ليقوى ويتصل ويكثف ، والأصل في التأليف : الهمز. وقرأ ورش وقالون عن نافع (يُؤَلِّفُ) بالواو تخفيفا ، والسحاب : واحد في اللفظ ، ولكن معناه جمع ، ولهذا دخلت بين عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له. قال الفراء : إن الضمير في بينه راجع إلى جملة السحاب ، كما تقول : الشجر قد جلست بينه ، لأنه جمع وأفرد الضمير باعتبار اللفظ (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي : متراكما يركب بعضه بعضا. والركم : جمع الشيء ، يقال : ركم الشيء يركمه ركما ، أي : جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع ، والركمة : الطين المجموع ، والركام : الرمل المتراكب (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) الودق : المطر عند جمهور المفسرين ، ومنه قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها |
|
ولا أرض أبقل إبقالها |