إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧))
لما نفى سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلا وآجلا فوصفهم بصفات أربع : الأولى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) الإشفاق : الخوف ، تقول أنا مشفق من هذا الأمر ، أي : خائف. قيل : الإشفاق هو الخشية ، فظاهر ما في الآية التكرار. وأجيب بحمل الخشية على العذاب ، أي : من عذاب ربهم خائفون ، وبه قال الكلبي ومقاتل. وأجيب أيضا بحمل الإشفاق على ما هو أثر له ، وهو الدوام على الطاعة ، أي : الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته. وأجيب أيضا بأن الإشفاق كمال الخوف فلا تكرار ، وقيل : هو تكرار للتأكيد. والصفة الثانية قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) قيل : المراد بالآيات هي التنزيلية ، وقيل : هي التكوينية ، وقيل : مجموعهما ، قيل : وليس المراد بالإيمان بها هو التصديق بوجودها فقط ، فإن ذلك معلوم بالضرورة ولا يوجب المدح ، بل المراد التصديق بكونها دلائل وأن مدلولها حق. والصفة الثالثة قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي : يتركون الشرك تركا كليا ظاهرا وباطنا. والصفة الرابعة قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي : يعطون ما أعطوا وقلوبهم خائفة من أجل ذلك الإعطاء يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله ، وجملة (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن قلوبهم خائفة أشدّ الخوف. قال الزّجّاج : قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون ، وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب ، لا مجرّد رجوعهم إليه سبحانه. وقيل : المعنى : أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الربّ الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل. قرأت عائشة وابن عباس والنخعي «يأتون ما أتوا» مقصورا من الإتيان. قال الفراء : ولو صحّت هذه القراءة لم تخالف قراءة الجماعة ، لأن من العرب من يلزم في الهمز الألف في كل الحالات. قال النحاس : معنى هذه القراءة يعملون ما عملوا والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المتّصفين بهذه الصفات ، ومعنى (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يبادرون بها. قال الفرّاء والزجّاج : ينافسون فيها ، وقرئ «يسرعون». (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) اللام للتقوية ، والمعنى : هم سابقون إياها ، وقيل : اللام بمعنى إلى ، كما في قوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (١) أي : أوحى إليها ، وأنشد سيبويه قول الشاعر (٢) :
تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي |
|
وما قصدت من أهلها لسوائكا (٣) |
أي : إلى سوائكا ، وقيل : المفعول محذوف ، والتقدير : وهم سابقون الناس لأجلها. ثم لما انجرّ الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر لهما حكمين ، الأوّل قوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الوسع : هو
__________________
(١). الزلزلة : ٥.
(٢). هو الأعشى.
(٣). «تجانف» : تنحرف. «جو» : هو ما اتسع من الأودية.