هنا أن زمنهم متقدّم على زمن النصارى. وجملة (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) في محل رفع على أنها خبر لإنّ المتقدّمة ، ومعنى الفصل أنه سبحانه يقضي بينهم فيدخل المؤمنين منهم الجنة والكافرين منهم النار. وقيل : الفصل هو أن يميز المحقّ من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما ، وجملة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تعليل لما قبلها ، أي : إنه سبحانه على كل شيء من أفعال خلقه وأقوالهم شهيد ، لا يعزب عنه شيء منها. وأنكر الفراء أن تكون جملة (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) خبرا لإن المتقدّمة ، وقال : لا يجوز في الكلام : إن زيدا إن أخاه منطلق ، وردّ الزجاج ما قاله الفراء ، وأنكره وأنكر ما جعله مماثلا للآية ، ولا شك في جواز قولك : إن زيدا إن الخير عنده ، وإن زيدا إنه منطلق ، ونحو ذلك. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الرؤية هنا هي القلبية لا البصرية ، أي : ألم تعلم ، والخطاب لكل من يصلح له ، وهو من تتأتّى منه الرؤية ، والمراد بالسجود هنا هو الانقياد الكامل ، لا سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء ، سواء جعلت كلمة من خاصة بالعقلاء ، أو عامة لهم ولغيرهم ، ولهذا عطف (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) على من ، فإن ذلك يفيد أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء ، وإنما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت من ، على تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعدا في العادة ، وارتفاع (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) بفعل مضمر يدلّ عليه المذكور ، أي : ويسجد له كثير من الناس. وقيل : مرتفع على الابتداء وخبره محذوف ، وتقديره : وكثير من الناس يستحق الثواب ، والأوّل أظهر. وإنما لم يرتفع بالعطف على «من» ؛ لأن سجود هؤلاء الكثير من الناس هو سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء ، والمراد بالسجود المتقدّم هو الانقياد ، فلو ارتفع بالعطف على «من» لكان في ذلك جمع بين معنيين مختلفين في لفظ واحد. وأنت خبير بأنه لا ملجئ إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد ، ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم لا نفس السجود الخاص ، فارتفاعه على العطف لا بأس به ، وإن أبى ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه. وأما قوله : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) فقال الكسائي والفراء : إنه مرتفع بالابتداء وخبره ما بعده. وقيل : هو معطوف على «كثير» الأوّل ، ويكون المعنى : وكثير من الناس يسجد وكثير منهم يأبى ذلك. وقيل : المعنى : وكثير من الناس في الجنة ، وكثير حق عليه العذاب ، هكذا حكاه ابن الأنباري. (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي : من أهانه الله بأن جعله كافرا شقيا ، فما له من مكرم يكرمه فيصير سعيدا عزيزا. وحكى الأخفش والكسائي والفراء أن المعنى : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) ، أيّ إكرام ، (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الأشياء التي من جملتها ما تقدّم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة (هذانِ خَصْمانِ) الخصمان : أحدهما أنجس الفرق اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا ، والخصم الآخر المسلمون ، فهما فريقان مختصمان. قاله الفراء وغيره. وقيل : المراد بالخصمين الجنة والنار. قالت الجنة : خلقني لرحمته ، وقالت النار : خلقني لعقوبته. وقيل : المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر ، فمن المؤمنين حمزة وعليّ وعبيدة ، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وقد كان أبو ذرّ رضي الله عنه يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في الصحيح ، وقال بمثل هذا جماعة