عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ثم كأنه قال له سبحانه ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها (وَ) لكن (قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) والكاف في محل نصب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي ؛ وقيل : ليس المراد رحمة مثل الرحمة بل الكاف لاقترانهما في الوجود فلتقع هذه كما وقعت تلك. والتربية : التنمية ، ويجوز أن يكون الكاف للتعليل ، أي : لأجل تربيتهما لي كقوله : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (١) ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ لها جلود أهل العقوق ، وتقف عندها شعورهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك في قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) قال : من كان يريد بعمله الدنيا (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ذاك به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، عن الحسن في قوله : (كُلًّا نُمِدُّ) الآية قال : كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : يرزق من أراد الدنيا ويرزق من أراد الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك قال : (مَحْظُوراً) ممنوعا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله. وأخرج الطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، عن سلمان عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع بها إلا وضعه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول ، ثم قرأ : (أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)» وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين «أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مَذْمُوماً) يقول : ملوما. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ : ووصّى ربّك ، مكان (وَقَضى) ، وقال : التزقت الواو والصاد وأنتم تقرؤونها (وَقَضى رَبُّكَ). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحّاك عنه مثله. وأخرج أبو عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضا مثله ، وزاد : ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد. وأقول : إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر ، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء ، كما في قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٢) ، وقوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) (٣) (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) (٤) ولكنه ـ هاهنا ـ بمعنى الأمر ، وهو أحد معاني القضاء ، والأمر لا يستلزم ذلك ، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه ، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين ، ومن معاني مطلق القضاء معان أخر غير هذين المعنيين كالقضاء بمعنى الخلق ، ومنه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٥). وبمعنى الإرادة كقوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦). وبمعنى العهد كقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) (٧). وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :
__________________
(١). البقرة : ١٩٨.
(٢). يوسف : ٤١.
(٣). البقرة : ٢٠٠.
(٤). النساء : ١٠٣.
(٥). فصلت : ١٢.
(٦). البقرة : ١١٧.
(٧). القصص : ٤٤.