وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) قال الزجاج : تأويل هذه الآية أن الله عزوجل أخبر بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم ، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك ، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا. فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول : ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه. انتهى. فالمراد بالفتنة على هذا كفرهم : أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتخروا به وقاتلوا عليه إلا ما وقع منهم من الجحود والحلف على نفيه بقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وقيل : المراد بالفتنة هنا جوابهم : أي لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبرّي ، فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذبا ، وجملة (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) معطوفة على عامل الظرف المقدّر كما مرّ والاستثناء مفرّغ ، وقرئ (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع وبالنصب ، ويكن وتكن والوجه ظاهر ، وقرئ وما كان فتنتهم وقرئ : ربنا بالنصب على النداء (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بإنكار ما وقع منهم في الدنيا من الشرك (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي زال وذهب افتراؤهم وتلاشى وبطل ما كانوا يظنّونه من أن الشركاء يقرّبونهم إلى الله ، هذا على أنّ ما مصدرية ؛ وقيل : هي موصولة ، عبارة عن الآلهة : أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا ، وهذا تعجيب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم من حالهم المختلفة ودعواهم المتناقضة ؛ وقيل : لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة لأنها دار لا يجري فيها غير الصدق ، فمعنى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) نفي شركهم عند أنفسهم ، وفي اعتقادهم ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (١). قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) هذا كلام مبتدأ لبيان ما كان يصنعه بعض المشركين في الدنيا ، والضمير عائد إلى الذين أشركوا : أي وبعض الذين أشركوا يستمع إليك حين تتلو القرآن (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم ، والأكنة : الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان ، كنت الشيء في كنه : إذا جعلته فيه ، وأكننته أخفيته ، وجملة (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) مستأنفة للإخبار بمضمونها ، أو في محل نصب على الحال : أي وقد جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا القرآن ، أو لئلا يفقهوه ، والوقر : الصمم ؛ يقال : وقرت أذنه تقر وقرا : أي صمت. وقرأ طلحة بن مصرف وقرا بكسر الواو : أي جعل في آذانهم ما سدّها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير ، وهو مقدار ما يطيق أن يحمله ، وذكر الأكنة والوقر تمثيل لفرط بعدهم عن فهم الحق وسماعه كأن قلوبهم لا تعقل وأسماعهم لا تدرك (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي لا يؤمنوا بشيء من الآيات التي يرونها من المعجزات ونحوها لعنادهم وتمرّدهم. قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) حتى هنا : هي الابتدائية التي تقع بعدها الجمل ، وجملة يجادلونك في محل نصب على الحال ، والمعنى : أنهم بلغوا من الكفر والعناد أنهم إذا جاءوك مجادلين لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان ، بل يقولون : إن هذا إلا أساطير الأوّلين ؛ وقيل : حتى هي الجارة وما بعدها في محل جر ، والمعنى : حتى وقت مجيئهم مجادلين يقولون : إن هذا إلا أساطير الأوّلين ، وهذا غاية التكذيب ونهاية العناد. والأساطير قال الزجاج : واحدها أسطار. وقال الأخفش : أسطورة. وقال أبو عبيدة : إسطارة. وقال النحاس : أسطور. وقال القشيري : أسطير. وقيل : هو جمع لا واحد له كعباديد وأبابيل. والمعنى : ما سطره الأوّلون في الكتب
__________________
(١). النساء : ١٢٣.