أى : والذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات ، لننزلنهم من الجنة غرفا عالية فخمة. هذه الغرف من صفاتها أنها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) زيادة في إكرام أصحابها ، وفضلا عن ذلك فقد جعلناهم (خالِدِينَ فِيها) خلودا أبديا.
والمخصوص بالمدح في قوله : (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) محذوف. أى : نعم أجر العاملين ، أجر هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) صفة لهؤلاء العاملين.
أى : من مناقبهم الجليلة أنهم يصبرون على طاعة الله ، وعلى كل ما يحسن معه الصبر ، وأنهم يفوضون أمورهم إلى خالقهم لا إلى غيره.
ثم رغبهم ـ سبحانه ـ في الهجرة لإعلاء كلمة الله بأسلوب ثالث ، حيث بين لهم أن هجرتهم لن تضيع شيئا من رزقهم الذي كتبه الله لهم ، فقال ـ سبحانه ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ، اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
روى أن بعض الذين أسلموا بمكة عند ما أمرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بالهجرة إلى المدينة قالوا : كيف نهاجر إلى بلدة ليس لنا فيها معيشة ، فنزلت هذه الآية.
وكلمة «كأين» : مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على التكثير. ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها. وهي مبتدأ. و «من دابة» تمييز لها.
وجملة : «لا تحمل رزقها» صفة لها ، وجملة «الله يرزقها» هي الخبر.
والدابة : اسم لكل نفس تدب على وجه الأرض سواء أكانت من العقلاء أم من غير العقلاء. أى : وكثير من الدواب التي خلقها الله ـ تعالى ـ بقدرته ، لا تستطيع تحصيل رزقها ، ولا تعرف كيف توفره لنفسها ، لضعفها أو عجزها ... ومع هذا فالله ـ تعالى ـ برحمته وفضله يرزقها ولا يتركها تموت جوعا ، ويرزقكم أنتم ـ أيضا ، لأنه لا يوجد مخلوق ـ مهما اجتهد ودأب يستطيع أن يخلق رزقه.
(وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (السَّمِيعُ) لكل شيء (الْعَلِيمُ) بما تسرون وما تعلنون.
وقدم ـ سبحانه ـ رزق الدابة التي لا تستطيع تحصيله ، على رزقهم فقال : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) لينفى من قلوب الناس القلق على الرزق ، وليشعرهم بأن الأسباب ليست هي كل شيء ، فإن واهب الأسباب ، لا يترك أحدا بدون رزق ، ولإزالة ما قد يخطر في النفوس من أن الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله قد تنقص الرزق ..