وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) بيان لسنة من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، اقتضتها حكمته ومشيئته.
أى : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، ليظهر قوى الإيمان من ضعيفه ، إذ أن قوى الإيمان لتصديقه بقضاء الله وقدره يثبت على الحق ويلتزم بما أمره الله ـ تعالى ـ به ، أما ضعيف الإيمان فإنه يحسد غيره على ما آتاه الله ـ تعالى ـ من فضله. كما حسد المشركون رسول الله صلىاللهعليهوسلم على منصب النبوة الذي أعطاه الله ـ تعالى ـ إياه (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١).
قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أى : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد ـ سبحانه ـ أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس ، فالصحيح : فتنة للمريض. والغنى : فتنة للفقير .. ومعنى هذا ، أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، فعليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغنى ، فعليه أن لا يحسده. ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق .. والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره ... فالفتنة : أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر وذاك عن الضجر .. (٢).
والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَتَصْبِرُونَ) للتقرير. أى : أتصبرون على هذا الابتلاء والاختبار فتنالوا من الله ـ تعالى ـ الأجر ، أم لا تصبرون فيزداد همكم وغمكم؟
ويصح أن يكون الاستفهام بمعنى الأمر. أى : اصبروا على هذا الابتلاء كما في قوله ـ تعالى ـ : (... وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ.). (٣) أى : أسلموا .. وكما في قوله ـ سبحانه ـ : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أى : انتهوا عن الخمر والميسر.
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أى : وكان ربك أيها الرسول الكريم ـ بصيرا بأحوال النفوس الطاهرة والخفية ، وبتقلبات القلوب وخلجاتها. فاصبر على أذى قومك ، فإن العاقبة لك ولأتباعك المؤمنين.
فهذا التذييل فيه ما فيه من التسلية والتثبيت لفؤاد النبي صلىاللهعليهوسلم.
ثم حكت السورة للمرة الرابعة تطاول المشركين وجهالاتهم ، وردت عليهم بما يخزيهم ، وبينت ما أعد لهم من عذاب في يوم لا ينفعهم فيه الندم.
__________________
(١) سورة الزخرف الآية ٣١.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٨.
(٣) سورة آل عمران الآية ٢٠.