ومن خصّ بتلك العناية ، كيف يلحقه الاستدراج ، وهو محفوظ بعين رعاية الأزل؟
قال سهل : يمدّهم بالنعم ، وينسيهم الشكر عليها ، فإذا تمكّنوا إلى النعمة ، وحجبوا عن المنعم أخذوا.
قال : الاستدراج أن يلقي في أوهامهم أنهم من أهل الوصلة والحقيقة ، السابق لهم من القسمة حقائق الفرقة.
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) : من لم يكن من نظّار الحقائق ، والمكاشفين أسرار الجبروت في الملكوت من أهل الدقائق ، كيف ينظر إلى مرآة الصفات ، التي تبرز فيها أنوار الذات ، ندبهم الحق إلى طلب مشاهدته وقربه ، وإلى النظر من القلوب إلى الغيوب ؛ ليدركوا بصفاء العقول ، وأبصار الأرواح ، وعيون الفؤاد ، ما لم يدركوا بجميع العبادات ؛ لأنّ النظر يورّث الفكرة ، والفكرة تورّث الذكر ، والذكر يورث المعرفة ، والمعرفة تورث الحكمة ، والحكمة تورث المحبّة ، والمحبة تورث الشوق ، والشوق تورث العشق ، والعشق يورث الأنس ، والأنس يورث الانفراد ، والانفراد يورث التوحيد ، والتوحيد يورث الفناء ، والفناء يورث البقاء ، والبقاء يورث رؤية الأزل ، ورؤية الأزل تورث رؤية الأبد ، والعبد هناك يطير بهذه الأجنحة من الآزال إلى الآباد ، ومن الآباد إلى الآزال.
ولو كان القوم أهل مناهج كبرى من المشاهدات أحالهم الحق بالنظر إليه ، لا إلى الملك والملكوت ، فإن النظر منه إلى غيره شرك في التوحيد ، وهؤلاء ضعفاء مسالك المعرفة.
قال بعضهم : النظر في الملكوت يورث الاعتبار ، والنظر إلى المالك يسقط منك الاشتغال بسواه.
وقال بعضهم : النظر إلى الملكوت على مراتب ثلاث :
«أولها» : النظر بعين العبرة لا بعين الشهوة ، و «الثانية» : النظر بعين اليقين إلى قدر القادر ، و «الثالثة» : النظر بعين المعرفة من الملك إلى المالك.
فأمّا الناظر بعين العبرة ، فإنه يجد حقيقة التوحيد ، والناظر بعين اليقين يجد حقيقة الإخلاص ، والناظر بعين المعرفة يجد حقيقة المعرفة.
قال الأستاذ : أطلع الله سبحانه أقمار الآيات ، وأماط بضيائها سحاب الشبهات ، فمن استضاء بها ترقّى إلى شهود القدرة.
ويقال : ألاح الله لقلوب الناظرين بعيون الفكر حقائق التحصيل ، فمن لم يعرج في أوطان التقصير أنزلته مراكب السير بمباحات التحقيق.