قال ابن كثير :
فالجواب على ذلك ـ والله أعلم ـ أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب
الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع
العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا
مكة يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم» .
ثم يمضى السياق
القرآنى مع المكذبين المتعجلين للعذاب ، فيسوق لهم صورة لعلم الله الشامل الذي لا
يند عنه شيء (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ).
قال القرطبي : (مَفاتِحُ) جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، وهي قراءة ابن
السميقع ، والمفتح عبارة عن كل ما يخل غلقا محسوسا كان كالقفل على البيت ، أو
معقولا كالنظر ، وروى ابن ماجة في سننه وأبى حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس
مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن
جعل الله مفاتيح الشر على يديه» ، وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما
يتوصل في الشاهد بالمفتح إلى الغيب عن الإنسان. ولذلك قال بعضهم هو مأخوذ من قول
الناس افتح على كذا ، أى : أعطنى أو علمني ما أتوصل إليه به فالله ـ تعالى ـ عنده
علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء اطلاعه عليها
أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه» .
والغيب : ما غاب
عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى معرفته ، وهو يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة
والجن ، ويشمل الأعراض الخفية ومواقيت الأشياء وغير ذلك. وقدم الظرف لإفادة الاختصاص
، أى : عنده لا عند غيره مفاتيح الغيب ، وجملة «لا يعلمها إلا هو» في موضع الحال
من مفاتح ، وهي مؤكدة لمضمون ما قبلها.
ومعنى (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أى : لا يعلم الغيوب علما تاما مستقلا إلا هو ـ سبحانه ـ فأما
ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم ، فكان في الأصل راجعا إلى
علمه هو. قال ـ تعالى ـ (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ).
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن علمه ليس مقصورا على المغيبات ، وإنما هو يشملها كما يشمل المشاهدات فقال : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
قال الراغب : أصل
البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير ، وقيل إن أصله الماء الملح
__________________