الدّليل الثّاني : حكم العقل :
بتقريب انّه لا ريب في أنّ الآتي بالعمل المشكوك كونه مستحباً ، قاطع بعدم الضرر في هذا الإتيان ، لدورانه بين كونه مباحاً أو مستحباً بخلاف تركه لانّا نحتمل حينئذ ترك ما هو مطلوب في نفس الأمر ولا شبهة في أنّ العقل يرجح حينئذ إتيان الفعل.
ولذا نرى انّ العبيد اذا احتملوا كون شيء مطلوباً للمولى وعلموا عدم ترتب ضرر ونقص على الإتيان به يقدمون عليه لهذا الاحتمال ويستحقون المدح من العقلاء وان لم يكن ذلك الشيء مطلوباً في نفس الأمر.
فإذا ثبت الرجحان عند العقل فهو كاف في الحكم بالندب ، غاية ما في الباب انّ ذلك ليس إثباتاً لاستحباب المشكوك من حيث الخصوصية بل إثبات لرجحان فعله من جهة أنّه محتمل المطلوبية. (١)
أقول : ضعف هذا الوجه واضح جداً لأنّ المكلّف إمّا أن يأتي بالعمل المشكوك استحبابه بما انّه حكم من الأحكام الشرعية ويعامل معه معاملة المستحبات الواقعية ، وإمّا أن يأتي به لاحتمال كون فعله مطلوباً للشارع ومحبوباً عنده ولرجاء إدراك الواقع.
أمّا الأوّل : فلا شك في أنّه إمّا تشريع ـ إن كان التشريع بمعنى إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين فيه ، لا خصوص إدخال ما علم أنّه ليس منه فيه ـ وإمّا قول بغير علم واسناد شيء إلى الشارع كذلك ، ولا كلام في حرمة كليهما ويأتي مزيد توضيح لذلك.
وأمّا على الثاني ، فالعمل معنون بعنوان الاحتياط والانقياد ، وهو وان كان أمراً مطلوباً ، يشهد به العقل والنقل ، إلّا أنّه غير الحكم بالاستحباب (٢) كما لا يخفى ويأتي في تنبيهات المسألة بيان الفرق بين قاعدة التسامح وقاعدة الاحتياط.
__________________
(١) عناوين الأُصول : ١٣٤ ، بتصرف منّا في العبارة.
(٢) لو أراد إثبات الاستحباب ، وإلّا فالاستدلال متين.