وقد أجاب عن ذلك الإمام القرطبي بقوله : قول عيسى (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) قاله على وجه الاستعطاف لهم ، والرأفة بهم ، كما يستعطف السيد لعبده ، ولهذا لم يقل : فإنهم عصوك. وقيل قاله على وجه التسليم لأمره ، والاستجارة من عذابه ، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل. الهاء والميم في (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) لمن مات منهم على الكفر. والهاء والميم في قوله : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لمن تاب منهم قبل الموت. وهذا وجه حسن» (١).
أقول : هذا الوجه الثالث الذي ذكره القرطبي قد اكتفى به بعض المفسرين فقال : قوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أى : من أقام على الكفر منهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) أى : لمن آمن منهم (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره (الْحَكِيمُ) في صنعه (٢).
ومع وجاهة هذا الوجه فإننا نرى أن الآية الكريمة حكاية للتفويض المطلق الذي فوضه عيسى إلى ربه ـ سبحانه ـ في شأن قومه ولهذا قال ابن كثير :
هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله ـ تعالى ـ فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وكذبوا على رسوله ، وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا.
وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب ، وقد ورد في الحديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
فقد روى الإمام أحمد عن أبى ذر قال : صلى النبي صلىاللهعليهوسلم ذات ليلة : فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الآية فلما أصبح قلت : يا رسول الله ألم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال : إنى سألت ربي ـ عزوجل الشفاعة لأمتى فأعطانيها ـ وهي نائلة ـ إن شاء الله ـ لمن لا يشرك بالله شيئا» (٣).
وبعد أن حكى القرآن الكريم ما رد به عيسى عليهالسلام ـ على قول ربه وخالقه ـ سبحانه ـ (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) وقد تضمن هذا الرد ـ كما سبق أن بينا ـ التنزيه المطلق لله ـ تعالى ـ ، والنفي التام لأن يكون عيسى قد قال هذا القول. بعد كل ذلك ختم ـ سبحانه تلك المجاوبة ببيان حسن عاقبة الصادقين يوم القيامة فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٧٨
(٢) تفسير الجلالين ـ ومعه حاشية الجمل ـ ج ١ ص ٥٤٦
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٢١