وقوله : (يَتِيهُونَ) من التيه وهو الحيرة. يقال : تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق. ووقع فلان في التيه. أى : في مواضع الحيرة.
وقوله : (فَلا تَأْسَ) أى : فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن. يقال : أسى ـ كتعب ـ أى : حزن. فهو آس مثل حزين. وأسا على مصيبته ـ من باب عدا ـ أى : حزن قال امرؤ القيس :
وقوفا بها صحبي على مطيهم |
|
يقولون لا تهلك أسى وتجمل |
أى : يقولون لا تهلك نفسك حزنا وتجمل بالصبر.
والمعنى : قال الله ـ تعالى ـ لنبيه موسى مجيبا لدعائه : يا موسى إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة ، يسيرون خلالها في الصحراء تائهين حيارى لا يستقيم لهم أمر ، ولا يستقر لهم قرار ، فلا تحزن عليهم بسبب هذه العقوبة ؛ فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خروجهم عن طاعتنا ، وتمردهم على أوامرنا ، وجبنهم عن قتال أعدائنا ، وسوء أدبهم مع أنبيائنا.
قال الآلوسى. قوله : (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) أى : لا يدخلونها ولا يملكونها. والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد ، وجوز أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر وقوله (أَرْبَعِينَ سَنَةً) متعلق بقوله : محرمة فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا ، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله ـ تعالى ـ (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ). والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة ، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها ، بل بعضهم ممن بقي ـ يجوز له دخولها ـ فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بنى إسرائيل ـ بعد انقضاء هذه المدة ـ إلى الأرض المقدسة.
وقوله : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) استئناف لبيان كيفية حرمانهم. وقيل حال من ضمير (عَلَيْهِمْ). وقيل : الظرف متعلق بقوله : (يَتِيهُونَ) فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه» (١).
وقال الفخر الرازي : اختلف الناس في أن موسى وهارون ـ عليهماالسلام ـ هل بقيا في التيه أو لا؟ فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه ؛ لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ، ودعوات الأنبياء مجابة ، لأن التيه كان عذابا والأنبياء لا يعذبون.
وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه ، إلا أن الله ـ تعالى ـ سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما. وإنهما قد ماتا في التيه وبقي يوشع بن
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠٩ ـ بتصرف وتلخيص ـ