بعدم اختصاص مداليلها بالعالمين بل شمولها للجاهلين ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين وتفويت المصلحة أو الإبقاء في المفسدة ، وقد أوضحنا الحال في باب الجمع بين الحكم الواقعي والظّاهري وأنّ المفاسد كلّها خطابيّة كانت أو ملاكيّة ، مرتفعة ، فلاحظ.
الاجتهاد والأزمنة والأمكنة :
إنّ تأثّر اختلاف الأزمنة والأمكنة في استنباط الأحكام الشرعيّة ، كان مطروحاً من السابق في كتب أهل السنّة وقد عالجوا بها مخالفة الخلفاء لنصوص الكتاب والسنّة ، فصحّحوا المخالفة باختلاف الظروف ، وأنّ مقتضى المصالح العامّة هو ترك العمل بالنّصوص وتقديم المصالح عليها ، وقد طرحه ابن القيّم الجوزية في كتاب «أعلام الموقعين» وأتى فيه بكلام مسهب لا يسعنا نقله وخرج بهذه النتيجة وهي : أنّ للحاكم الإسلامي تقييد المطلقات والعمومات بملاكات خاصّة ، ولأجل ذلك ، كتب عمر بن الخطاب إلى الناس أن لا يجلدنَّ أمير جيش ولا سريّة (ولا) رجل من المسلمين حدّاً وهو غاز حتى يقطع الدّرب قافلاً لئلّا تلحقه حميّة الشيطان فيلحق بالكفّار (١). ورأى مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلّا بإمضائها على الناس ، ورأى مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الإيقاع ، ثمّ أضاف ابن القيّم : «فلمّا تغيّر الزمان وبعد العهد بالسنّة وأثار القوم ، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس ، فالواجب أن يردّ الأمرُ إلى ما كان عليه في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقلّلها ويخفّف شرّها» (٢).
هذا ولا يمكن لنا الموافقة مع كلّ ما ذكره ، فإنّ مآل كلامه أنّ للحاكم
__________________
(١) أعلام الموقعين : ٣ / ٦.
(٢) المصدر نفسه : ٣ / ٤٨.