وما ورد في هذه الآية الشريفة قضية عقليّة من أوضح القضايا بعد التأمّل فيها ، لأن من بيده الإيجاد والإفناء ، والحياة والموت ، والحدوث والبقاء ، لا بد وأن يتحذّر عن مخالفته ويحذّر عن التعرّض لسخطه وعقابه ، فالآية المباركة تتضمّن الحكم والدليل بوجه لطيف.
ومن ذلك يعلم أنه لا يحتاج إلى التقدير في الكلام ، كما عليه جمهور المفسّرين ، أي : يحذّركم الله عقاب نفسه ، فإن عذابه وإن كان لا بد ممّا يحترز عنه ، كما أكّد عليه سبحانه وتعالى في آيات اخرى ، قال عزّ شأنه : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٥٧] ، ولكن ظاهر الآية أشدّ تحذيرا من التقدير.
قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).
تأكيد للتحذير ، لأن من كان مصيره إلى الله تعالى ولا مفرّ منه ولا صارف له ، لا بد من التحذير عن الوقوع في مخالفته والتحذير عن سخطه وعقابه.
قوله تعالى : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ).
خطاب إلى الرسول الكريم بإبلاغ أعظم حقيقة ، وهي علم الله تعالى بالمضمرات في النفوس وما هو الظاهر ، وأنه تعالى الذات المحيطة بجميع ما سواه إحاطة حقيقيّة واقعيّة فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة ، لأن العلم وكشف الواقع عين الذات ، فلا بد أن تكون لهذه الذات الإحاطة العلميّة بجميع ما سواها وانكشاف الحقائق لديها.
وبحث العلم الربوبي من أهم البحوث في الفلسفة الإلهيّة ، ويمكن إقامة البرهان على ذلك بوجه مختصر سديد ، وهو أن الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعيّة والادراكيّة موجودة ، ولا بد أن يكون عالما بما في الضمائر وما يبدو منها ، وإلّا يلزم الخلف ، وهو محال ، فيكون فرض إحاطة الذات وإحاطة الربوبيّة ، وإحاطة الحكمة والتدبير ، ليس إلّا فرض إحاطة علمه تعالى بجميع مخلوقاته ، كلّياتها وجزئياتها ، قال تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [سورة الملك ، الآية : ١٣ ، ١٤].