وضع اللغة الفلانية مثلا ، مع أنه لم يسجل شيء من هذا في التاريخ ، ومنه يعرف بأنّ اللغة ليست من صنع إنسان ، بل هي من إلهام الله تعالى ، ومن وضعه.
وهذا الاستبعاد أجاب عنه بعضهم : بأن اللغة لو كانت من صنع إنسان واحد ، بأن يقول أنا وضعت لكم لغة ، ثم يقدم قاموسا بها ، مع أن هذه حادثة ملفتة للنظر ينبغي أن يشار إليها في التاريخ وتسجل ، ولكن الأمر هذا ليس واقعا يقينا ، بل لو أن إنسانا فعل هذا لا تهم في عقله.
وإنما اللغة نشأت بالتدريج بمعنى أن كل جماعة أو فرد في كل زمان ، وضعوا بعض الألفاظ ، ثم جاء فرد آخر فأزاد لفظا ، وهكذا حتى نشأت هذه اللغة ، فليست اللغة برمتها مستندة إلى شخص واحد بعينه ، حتى يقال لما ذا لم يذكر اسمه في التاريخ (١).
وتحقيق الكلام في هذه المسألة : إنّ هذه الاستبعادات التي نواجهها على فرض أن يكون الواضع هو الإنسان ، لا تنحصر في هذين الاستبعادين ليجاب بهذه الأجوبة ، بل هناك استبعادات ، ببيانات أخرى ، وإشكالات لا بد من التعرض لها ، والتأمل فيها ، نحن نضيفها إلى ما ذكر :
الاستبعاد الأول : إنه قد يقال ، بأن الإنسان لو قطع عن الله تعالى ، فيأتي هذا السؤال : كيف التفت الإنسان إلى أنه يملك أصواتا متعددة ، وأنه قادر بهذه الأصوات على أن يجعلها أدوات لتفهيم المعاني ، وما هي النكتة في ذلك ، وفي بادئ الأمر كيف توجّه إليها؟.
الآن تبدو هذه النكتة واضحة وبديهية ، باعتبار أن كل إنسان ينشأ في داخل لغة ، لكن إذا تكلمنا قبل فرض أي لغة ، حينئذ كيف التفت الإنسان أنه بالإمكان أن يستخدم الأصوات ليجعلها دالة على المعاني المختلفة؟. من قبيل
__________________
(١) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ / ص ٢٨.