لا بدّ وأن يكون هذا الإنسان ، سنخ إنسان له من الاطلاع على دقائق المعاني ، وخصوصياتها ، وشوارد الأفكار ، ما لا يوجد إلّا في الأنبياء ، وأشباه الأنبياء ، بخلاف ما لو قلنا إنّ الواضع هو الله تعالى ، فيناسب حينئذ مع سعة اللغة وشمولها ، وإحاطتها.
وهذا الاستبعاد أجاب عنه بعضهم (١). بما يرجع حاصله ، إلى أنه لو فرضنا أنّ شخصا واحدا أنشأ لغة بتمامها ، فهذا الاستبعاد في محله ، لو أن شخصا واحدا هو بنفسه قام بعهدة إنشاء لغة بكاملها ، بكامل موادها ، ونحوها ، وصرفها ، واشتقاقاتها ، هذا المطلب مستبعد جدا وفاء عهدة إنسان واحد به.
ولكن الأمر ليس هكذا ، فإن اللغة لم توجد في يوم واحد ، ودفعة واحدة ، وإنما وجدت على مراحل ، وبالتدريج حسب حاجة الناس ، فإن اللغة نتيجة لاحتياجات الناس ، واحتياجاتهم ليست من اليوم الأول واسعة ، بحيث تحتاج إلى لغة واسعة ، بل احتياجات الناس تبدأ قليلة ، ثم تتسع بالتدريج ، وكذلك اللغة تبدأ محدودة ، ثم تزداد وتتكاثر بالتدريج.
إذن فلا بأس بأن يقال : إنّ الإنسان هو الذي صنع اللغة ووضعها ، لأن واضع اللغة هو عبارة عن مجموع الأجيال المتعاقبة على طول الزمن ، وهذا المجموع المتعاقب ، لا استبعاد بأن يقع على عهدته وضع هذه اللغة ، فالجيل الأول وضع مقدارا بقدر حاجته ، والجيل الثاني أضاف مقدارا آخر ، والجيل الثالث أضاف مقدارا ثالثا ، وهكذا حتى تكونت لغة بهذا العرض العريض (٢).
الاستبعاد الثاني : إنّ الوضع لو كان من قبل إنسان معيّن ، إذن لكانت هذه حادثة مهمة ملفتة للنظر ، تسجل في التاريخ وتذكر (٣) ، بأنّ فلانا هو الذي
__________________
(١) منهاج الأصول ـ الكرباسي : ج ١ / ص ٢٣ ـ ٢٤
(٢) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ / ص ٢٨.
(٣) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ / ص ٢٨.