بايع الصحابة ـ عليهم رضوان الله ـ الخليفة الأول ، فأخذ قماشا وذراعا وذهب إلى السوق في الغداة ، فاستاء الصحابة ولاموه فقال : إذا أضعت أهلي ، فأنا للمسلمين أضيع! ففرضوا له دريهمات من بيت المال ، فقال : إذن أنظر في شؤونكم! لذلك ، نجد الغربيين ـ إذا ولّوا رجلا إدارة بلادهم ـ أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله ، علما منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة.
فانظر هذه الحقائق من سيرة النبيّ يوسف الصدّيق كيف ذكرت في الكتب السماوية ، ورتبت في القرآن ترتيبا محكما ، ذكرت فيها السياسات الثلاث مرتبة هكذا : النفس فالمنزل فالمدينة ، ترتيبا طبيعيا ، تنبيها لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة. فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق. وليت شعري! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم ، وعبد الله وحده ، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة ...؟! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كلّ جانب ، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده ، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم ..!
ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية ، فلم يكن ذلك كافيا لإدارة أموره العامة ، فأودع السجن وأحيط بالأحداث والجهلة من كلّ جانب ، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله ، وبثّ عقيدته بينهم ، ظاهرا بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ ...) [يوسف : ٣٧] الآية. وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه ، وحبّه لمذهبهم ، وبغضه لأصنام المصريين ، ونحوهم ، فقال : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) [يوسف : ٣٧] الآية. ثم أخذ يذكّرهم أنّ تفرّق وجهة الأمة ضلال في السياسة ، وأنّ توحيد وجهتها كياسة فيها ، فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] ، فتفريق الوجهة شتات الجامعة. لم تسد أمة في الوجود إلا برجال يوحّدون وجهتها أيا كانت فيؤمّون مقصدا واحدا! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب ..!
وفي (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهن قوم اتحدت بها : كاللغة ، والوطن ، والدين ، والأخلاق ، والجنس ، والحكيم المرشد ، والأب الأكبر ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة.
ولما تمّ له ، عليهالسلام ، الأمران ـ سياسة النفس والعشيرة ـ أخرج من