مدنيتان ، وهما : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) ، ومن قال أنهما مدنيتان اعتمد فى ذلك على ما فى الآية الأولى من «الجدل» ، باعتبار أن الجدل كان من اليهود ، غير أن ما جاء عن الجدل فى السور المكية أكثر منه فى السور المدنية. ولم يحدث أن جادل اليهود فى الله وإنما جدالهم فى الشريعة وفيما حولها ، وأما الذين جادلوا فى الله فهم كفّار مكة ، ولذا فإن السورة جميعها فى اعتقادنا مكية ، على عكس ما يذهب إليه الكثير من المفسرين. والجدل فى الله وفى التوحيد ، كان موضوع كفار مكة وميّز كل السور المكية عن السور المدنية.
وسورة غافر نزلت بعد سورة الزمر ، وترتيبها فى المصحف الأربعون ، وفى التنزيل الستون ، وآياتها خمس وثمانون آية ، وموضوعها الصراع بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال ، وتبدأ السورة بتأكيد أن القرآن نزل من عند الله ، وأنه تعالى العزيز العليم ، فمن صفاته تعالى يناسب هذه السورة هاتان الصفتان : أنه تعالى عزيز لا ينال منه أحد ، وعليم يعلم ما تخفى الصدور ، وكل ما يأتى فى السورة من حوادث إنما تحكمها هاتان الصفتان من صفات الله تعالى ، ومع عزته ومنعته وعلمه بما يجرى ، فإنه تعالى غافر يغفر الذنوب ، وتوّاب يقبل التوبة ، وشديد العقاب يطول من لا يؤمن به وحده لا شريك له. وتنبّه السورة إلى أن من يجادلون فى القرآن هم أهل الباطل ، وأصحاب النار ، وهم المترفون يتقلبون فى النعم ، وقبلهم كذب قوم نوح ، وكذبت أمم وأقوام بعد قوم نوح ، وهؤلاء من يسميهم القرآن بمصطلحه : (وَالْأَحْزابُ) (٥) ، هموا أن يأخذوا أنبياءهم ، وجادلوا بالباطل ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر عليم ، وحقّت عليهم كلمة الله (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦). وتقارن السورة بينهم وبين «أصحاب الجنة» يستغفر لهم حملة العرش ، ويدعون ربّهم : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) ، و (جَنَّاتِ عَدْنٍ) من مصطلحات القرآن ، وهى جنات النعيم والإقامة ، وعلى عكس ذلك حال الكافرين يناديهم الملائكة أن الله تعالى يبغضهم أكثر من بغضهم لأنفسهم ، لأنه دعاهم إلى الإيمان فكفروا ، فلما صاروا إلى النار دعوا الله أنه تعالى أماتهم اثنتين ، وأحياهم اثنتين ، فذلك يطمعهم أن تكون لهم حياة ثالثة ينزلون فيها إلى الدنيا ، ويصلحون هذه المرة. والموتتان : الأولى كانت وهم فى العدم ، والثانية كانت وهم فى الدنيا ،