لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس. وقد لعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم (١) الراشي والمرتشي والرائش ـ وهو الواسطة الذي يمشي بينهما ـ رواه أهل السنن. وذلك لأن وليّ الأمر إذا أكل هذا السحت ـ أعني الرشوة المسماة بالبرطيل ، وتسمى أحيانا بالهدية وغيرها ـ احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان ؛ ووليّ الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، هذا مقصود الولاية. وإذا كان الوالي يمكّن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضدّ المقصود ، مثل من نصبته ليعينك على عدوّك فأعان عدوّك عليك. وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين. و (الحكّام) : جمع حاكم وهو منفذ الحكم بين الناس كالحكم ، محرّكة. (لِتَأْكُلُوا) أي : بواسطة حكمهم الفاسد ، وبالتحاكم إليهم ـ (فَرِيقاً) ـ أي : طائفة وقطعة ـ (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بما يوجب إثما ـ كشهادة الزور واليمين الفاجرة وحكمهم الفاسد ـ فإنه لا يفيد الحلّ والظلم. ف (الباء) للسببية. متعلّقها (لتأكلوا). وجوز كونها للمصاحبة. فالمجرور حال من فاعل (لتأكلوا) أي : متلبسين بالإثم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : أنكم على الباطل. وارتكاب المعصية ـ مع العلم بقبحها ـ أقبح ، وصاحبه أحق بالتوبيخ ، فالتقييد لكمال تقبيح حالهم.
قال الراغب : أي : إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم ، تنبيها على أنّ الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه ، وما علمتم منه لا بما يظهر.
وقال ابن كثير في (تفسيره) : قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بيّنة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام. وهو يعرف أنّ الحق عليه. وهو يعلم أنّه آثم آكل الحرام. وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدّيّ ، ومقاتل ابن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وقد ورد في (الصحيحين) (٢) عن أم سلمة : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : ألا إنما أنا بشر.
__________________
(١) أخرجه الترمذيّ في : الأحكام ، ٩ ـ باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم ، عن أبي هريرة ، وقال الترمذيّ : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
(٢) أخرجه البخاريّ في : المظالم والغصب ، ١٦ ـ باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه. ونصه : عن أم سلمة رضي الله عنها ، زوج النبي صلىاللهعليهوسلم ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال «إنما أنا بشر. وإنه يأتيني الخصم. فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه صدق ، فأقضي له بذلك. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار ، فليأخذها أو ليتركها». وأخرجه مسلم في : الأقضية ، حديث ٥.