(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنّها خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد أخرى. وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ، ويتمّ به معاشهم. ومعنى (لَكُمْ) لأجلكم ، ولانتفاعكم. وفيه دليل على أنّ الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل. ولا فرق بين الحيوانات وغيرها. مما ينتفع به من غير ضرر. وفي التأكيد بقوله (جَمِيعاً) أقوى دلالة على هذا. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قال أبو العالية الرياحي : استوى إلى السماء أي : ارتفع. نقله عنه البخاريّ في صحيحه (١) ، ورواه محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن الربيع بن أنس.
وقال البغويّ : قال ابن عباس وأكثر المفسّرين : ارتفع إلى السماء. وقال الخليل ابن أحمد في (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : ارتفع. رواه أبو عمرو ابن عبد البر في شرح الموطأ ، نقله الذهبيّ في كتاب العلوّ ـ. وقد استدل بقوله : (ثُمَّ اسْتَوى) على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، وكذلك الآية التي في (حم السجدة). وقوله تعالى في سورة (والنازعات) (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] إنما يفيد تأخّر دحوّها ، لا خلق جرمها ، فإنّ خلق الأرض وتهيئتها ـ لما يراد منها ـ قبل خلق السماء. ودحوّها بعد خلق السماء. والدحوّ هو البسط ، وإنبات العشب منها ، وغير ذلك. مما فسّره قوله تعالى (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) [النازعات : ٣١] الآية ـ وكانت قبل ذلك خربة وخالية. على أنّ «بعد» تأتى بمعنى «مع» كقوله («عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) [القلم : ١٣] أي : مع ذلك ، فلا إشكال. وتقديم الأرض ـ هنا ـ لأنها أدل لشدّة الملابسة والمباشرة. (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي : صيّرهن ، كما في آية أخرى (فَقَضاهُنَ) [فصلت : ١٢].
(تنبيه) قال بعض علماء الفلك : السموات السبع ـ المذكورة كثيرا في القرآن ـ هي هذه السيارات السبع. وإنما خصّت بالذكر ـ مع أن السيارات أكثر من ذلك ـ لأنها أكبر السيارات وأعظمها ، على أنّ القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد ـ على سبيل الحصر ـ فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع.
وقال بعض علماء اللغة : إن العرب تستعمل لفظ سبع ، وسبعين ، وسبعمائة للمبالغة في الكثرة. فالعدد إذن غير مراد. ومنه آية (سَبْعَ سَنابِلَ) [البقرة : ٢٦١] وآية (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧] وآية (سَبْعِينَ
__________________
(١) أخرجه البخاري في : التوحيد ، ٢٢ ـ باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم.