العالم غيب السموات. وللغيب ، لأنه يدعو النّاس إلى الغيب. وفي الغيب ، لأن حقائقه غائبة عن الإدراكات وإن أحاطت بظواهرها عقولهم وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة أيضا إن شاء الله تعالى.
إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته :
قد ثبت أن العرب في عصر نزول القرآن ولا سيما في مهبط الوحي كانوا أفصح النّاس بحيث لا يدانيهم في ذلك قوم ولا يقربهم في هذه الخصلة رهط ، وكان ذلك من أهم مفاخرهم ، وأشرف مآثرهم وكانت محافلهم تعج بالخطباء والشعراء ، وتعقد الأسواق لذلك ، وقد ضبطت الكتب فروع كلماتهم ودقائق جملاتهم ومع ذلك لم ينقل إلينا إلّا شيء قليل ، وكل من تأمل في هذه اللغة ورأى فيها من الأسرار والدقائق وما عليها من الجمال والبهاء يعترف بالعجز والتحير ، وحينئذ لا بد وأن تكون هذه الصفة ـ أي صفة البلاغة والفصاحة ـ التي كانت شايعة في مهبط التنزيل أقصى هدف سيد الأنبياء (صلىاللهعليهوآله) في إعجاز ما ينزل من الله تعالى إذ لم يكن تحدي كل نبي إلّا بما تميز به قومه ، فنزل القرآن متحديا لهم ببلاغته وفصاحته وأمرهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك واعترفوا بالقصور. وقد نقل أنهم لما سمعوا قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة هود ، الآية : ٤٤] أخذتهم الدهشة والتحير وأمروا بإنزال ما علق على الكعبة المشرفة من القصايد والأشعار.
وربما يقال : إنّ البلاغة والفصاحة كالجمال والملاحة من الغرائز الطبيعية فهي خارجة في الجملة عن الإختيار فلا وجه للتحدي بما هو خارج عنه.
ولكنه فاسد أولا : بأنه يصح التحدي بالنسبة إلى من كانت الفصاحة والبلاغة من غريزته ، ومع ذلك إذا اعترف بالعجز كان بالنسبة إلى المطلوب أتم وأعظم. وثانيا : إنّها وإن كانت من الغرائز في الجملة ولكن للاختيار في أصلها وسائر جهاتها دخل بالوجدان كما هو واضح لا يحتاج الى البيان.