وهذه هي طبيعة
السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها. وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس ، وينشئ لهم
مشاعر وفق إيحائه .. مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر ،
وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد .. وهي شر يستعاذ منه بالله
، ويلجأ منه إلى حماه.
وقد وردت
روايات ـ بعضها صحيح ولكنه غير متواتر ـ أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلىاللهعليهوسلم ـ في المدينة .. قيل أياما ، وقيل أشهرا .. حتى كان
يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في رواية ، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل
الشيء ولم يفعله في رواية ، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلما استحضر السحر المقصود ـ كما أخبر في رؤياه ـ وقرأ
السورتين انحلت العقد ، وذهب عنه السوء.
ولكن هذه
الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ ، ولا تستقيم مع الاعتقاد
بأن كل فعل من أفعاله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكل قول من أقواله سنة وشريعة ، كما أنها تصطدم بنفي
القرآن عن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه مسحور ، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من
هذا الإفك. ومن ثم تستبعد هذه الروايات .. وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر
العقيدة. والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد. وهذه
الروايات ليست من المتواتر. فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح. مما
يوهن أساس الروايات الأخرى.
(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ
إِذا حَسَدَ) ..
والحسد انفعال
نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها. وسواء أتبع الحاسد هذا
الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند حد الانفعال
النفسي ، فإن شرا يمكن أن يعقب هذا الانفعال.
ونحن مضطرون أن
نطامن من حدة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود ، وأسرار النفس البشرية ،
وأسرار هذا الجهاز الإنساني. فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار ، ولا نملك
لها حتى اليوم تعليلا .. هنالك مثلا ذلك التخاطر على البعد. وفيه تتم اتصالات بين
أشخاص متباعدين. اتصالات لا سبيل إلى الشك في وقوعها بعد تواتر الأخبار بها وقيام
التجارب الكثيرة المثبتة لها. ولا سبيل كذلك لتعليلها بما بين أيدينا من معلومات. وكذلك
التنويم المغناطيسي. وقد أصبح الآن موضعا للتجربة المتكررة المثبتة. وهو مجهول
السر والكيفية .. وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار
هذا الجهاز الإنساني ...
فإذا حسد
الحاسد ، ووجه انفعالا نفسيا معينا إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه
لمجرد أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار ، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته.
فنحن لا ندري إلا القليل في هذا الميدان. وهذا القليل يكشف لنا عنه مصادفة في
الغالب ، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك!
فهنا شر يستعاذ
منه بالله ، ويستجار منه بحماه ..
والله برحمته
وفضله هو الذي يوجه رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور. ومن
المقطوع به أنهم متى استعاذوا به ـ وفق توجيهه ـ أعاذهم. وحماهم من هذه الشرور
إجمالا وتفصيلا.
__________________