ابن مسعود يقول كذا وكذا (وكان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف) فقال : سألت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : «قيل لي : قل. فقلت». فنحن نقول كما قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (١) وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة ..
* * *
وهنا في هذه السورة يذكر الله ـ سبحانه ـ نفسه بصفته التي بها يكون العياذ من شر ما ذكر في السورة.
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) .. والفلق من معانيه الصبح ، ومن معانيه الخلق كله. بالإشارة إلى كل ما يفلق عنه الوجود والحياة ، كما قال في الأنعام : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) .. وكما قال : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) ..
وسواء كان هو الصبح فالاستعاذة برب الصبح الذي يؤمّن بالنور من شر كل غامض مستور ، أو كان هو الخلق فالاستعاذة برب الخلق الذي يؤمّن من شر خلقه ، فالمعنى يتناسق مع ما بعده ..
(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) .. أي من شر خلقه إطلاقا وإجمالا. وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض. كما أن لها خيرا ونفعا في حالات أخرى. والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها. والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها!
(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) .. والغاسق في اللغة الدافق ، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء. والمقصود هنا ـ غالبا ـ هو الليل وما فيه. الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة. والليل حينئذ مخوف بذاته. فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم. ومتلصص فاتك يقتحم. وعدو مخادع يتمكن. وحشرة سامة تزحف. ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل ، وتخنق المشاعر والوجدان ، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء. ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام. ومن ظاهر وخاف يدب ويثب ، في الغاسق إذا وقب!
(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) .. والنفاثات في العقد : السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس ، وخداع الأعصاب ، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر. وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء!
والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء ؛ ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليهالسلام : سورة طه (قالُوا : يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى. قالَ : بَلْ أَلْقُوا. فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا : لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ...).
وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلا ، ولكن خيل إلى الناس ـ وموسى معهم ـ أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة ، حتى جاءه التثبيت. ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزورة المسحورة.
__________________
(١) أخرجه البخاري.