ثم يغمر الجلال
المشهد ويغشية ، وتسكن الضجة التي تملأ الحس من النفخة والدكة والتشقق والانتثار.
يسكن هذا كله ويظهر في المشهد عرش الواحد القهار :
(وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها ، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) ..
والملائكة على
أرجاء هذه السماء المنشقة وأطرافها ، والعرش فوقهم يحمله ثمانية .. ثمانية أملاك
أو ثمانية صفوف منهم ، أو ثمانية طبقات من طبقاتهم ، أو ثمانية مما يعلم الله. لا
ندري نحن من هم ولا ما هم. كما لا ندري نحن ما العرش؟ ولا كيف يحمل؟ ونخلص من كل
هذه الغيبيات التي لا علم لنا بها ، ولم يكلفنا الله من علمها إلا ما قص علينا.
نخلص من مفردات هذه الغيبيات إلى الظل الجليل الذي تخلعه على الموقف. وهو المطلوب
منا أن تستشعره ضمائرنا. وهو المقصود من ذكر هذه الأحداث ليشعر القلب البشري
بالجلال والرهبة والخشوع ، في ذلك اليوم العظيم ، وفي ذلك الموقف الجليل :
(يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) ..
فالكل مكشوف.
مكشوف الجسد ، مكشوف النفس ، مكشوف الضمير ، مكشوف العمل ، مكشوف المصير. وتسقط
جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار ، وتتعرى النفوس تعري الأجساد ، وتبرز الغيوب
بروز الشهود .. ويتجرد الإنسان من حيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره ، ويفتضح
منه ما كان حريصا على أن يستره حتى عن نفسه! وما أقسى الفضيحة على الملأ. وما
أخزاها على عيون الجموع! أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن. ولكن لعل
الإنسان لا يشعر بهذا حق الشعور ، وهو مخدوع بستور الأرض. فها هو ذا يشعر به كاملا
وهو مجرد في يوم القيامة. وكل شيء بارز في الكون كله. الأرض مدكوكة مسواة لا تحجب
شيئا وراء نتوء ولا بروز. والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئا ، والأجسام
معراة لا يسترها شيء ، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر وليس فيها سر!
ألا إنه لأمر
عصيب. أعصب من دك الأرض والجبال ، وأشد من تشقق السماء! وقوف الإنسان عريان الجسد
، عريان النفس ، عريان المشاعر ، عريان التاريخ ، عريان العمل ما ظهر منه وما
استتر. أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله ، من الإنس والجن والملائكة ، وتحت
جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع ..
وإن طبيعة
الإنسان لمعقدة شديدة التعقيد ؛ ففي نفسه منحنيات شتى ودروب ، تتخفى فيها نفسه
وتتدسس بمشاعرها ونزواتها وهفواتها وخواطرها وأسرارها وخصوصياتها. وان الإنسان
ليصنع أشد مما تصنعه القوقعة الرخوة الهلامية حين تتعرض لوخزة إبرة ، فتنطوي سريعا
، وتنكمش داخل القوقعة ، وتغلق على نفسها تماما. إن الإنسان ليصنع أشد من هذا حين
يحس أن عينا تدسست عليه فكشفت منه شيئا مما يخفيه ، وأن لمحة أصابت منه دربا خفيا
أو منحنى سريا! ويشعر بقدر عنيف من الألم الواخز حين يطلع عليه أحد في خلوة من
خلواته الشعورية ..
فكيف بهذا
المخلوق وهو عريان. عريان حقا. عريان الجسد والقلب والشعور والنية والضمير. عريان
من كل ساتر. عريان ... كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار ، وأمام الحشد الزاخر بلا
ستار؟!
ألا إنه لأمر ،
أمّر من كل أمر!!!
* * *
وبعدئذ يعرض
مشهد الناجين والمعذبين ، كأنه حاضر تراه العيون ..