إن هدى الله منهج حياة صحيحة. حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معا برباط واحد : صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة ، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله. والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف ؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة.
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم ، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم ، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا». فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.
وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوى إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض ، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة :
(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟) ..
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله ، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة ، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..
لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله.
فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقا ، وأن يأمنوا التخطف حقا ، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها :
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) ..
إن بطر النعمة ، وعدم الشكر عليها ، هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن ؛ فليحذروا إذن أن يبطروا ، وألا يشكروا ، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها ، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية .. (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً). وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها ، وتروى قصة البطر بالنعمة ؛ وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحدا ، ولم يرثها بعدهم أحد (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ).
على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولا. فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده :
(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) ..
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى ـ أي كبراها أو عاصمتها ـ أن تكون مركزا تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد. وقد أرسل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في مكة أم القرى العربية. فهو